أسس التربية الاجتماعيَّة في الإسلام (3) والأخيرة

ظهور القوم:

لا يظهر حال الأفراد إلا إذا اتسع الميدان لإبداء الفكر، فإنه في اتساعه تعلم مقادير الرجال، ويبدو من هو الأصلح للاضطلاع بالأمور، ومن هو محدود التفكير ذو درجة لا تتجاوز بسائط الأمور.

فحين تتبلور القيم، ويظهر الجيد، ويمتاز عن غيره يمكن إسناد المهمات للأكْفَاء أما قبل اختبار العقول ومعرفة القوي من الضعيف فلا يتم ذلك وبذلك في عصور الإسلام اللامعة التي أخذ فيها المسلمون بالمبادئ الإسلاميَّة من غير التواء، ولا حيدة عن منهجها الواضح البيِّن كان المضطلعون بالمهام من ذوي الكفاءات فولاة المسلمين كانوا مثالاً يحتذى في سير الولاية؛ لأنَّ المجتمع نقدهم بسبب حرية الرأي التي كان عليها المسلمون فهم في إبداء آرائهم لا يخشون شيئاً في إبدائها فبرز الذين تعتمد عليهم الأمَّة الإسلاميَّة في إدارة شؤونها وتسيير دفة أمورها.

فظهر أمثال: خالد بن الوليد سيف الله، وأبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص، ممن كانوا أحق بالتقدم وقيادة الجيوش... فالكفاءات الميدان أمامها مفتوح تصل إلى ما يزيدها كل يوم أن تبدي من قيمتها ما هو في ترجيح كفة ميزانها.

التربية على الشورى:

اتصف أبو بكر الصديق بصفات تؤهله للخلافة النبوية ويكفيه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في حقِّه: «أبو بكر خير الناس إلا أن يكون نبي» [أخرجه الطبراني عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه]

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن روح القدس جبريل أخبرني أن خير أمتك بعدك أبو بكر الصديق»[أخرجه الطبراني في الأوسط عن سعد بن زرارة رضي الله عنه].

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر» [رواه أحمد والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه].

فهذه الأحاديث صريحة في أنَّ المرشح للخلافة بعد النبي المصطفى أبو بكر، ومع ذلك لم يعينه للخلافة وما ذاك إلا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريدها أن تكون شورى بعده.

وقد صرَّح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الإمارة على الأمَّة موكولة إلى الشورى، عن علي كرَّم الله وجهه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لو كنت مؤمراً على أمتي أحداً من غير مشورة منهم لأمرت عليهم ابن أمِّ عبد» [أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم في المستدرك].

يذكر أنَّه لو كان جاعلاً أحداً أميراً من غير مشورة من الأمَّة لأمَّر عليهم ابن أم عبد، وهو عبد الله بن مسعود صاحب النعل، فمعناه أن ابن عبد لم يعينه لأجل أنَّ المشورة لم تقع فيفيد أن المشورة مطلوبة في ذلك.

وإنما رشَّحه عليه الصلاة والسلام لجودة رأيه وحسن تدبيره.

وتركه أمر الخلافة للشورى إنما هو لتعليم المسلمين ليتربوا عليها، وذلك للاقتداء به حتى يكون الأمر سنة.

وكما أفاد تركه للخلافة للشورى ما ذكر كذلك أمره تعالى له بالشورى في الآية المتقدمة أفاد أنه تعالى إنما أمره بها ليقتدي به المقتدون من أمته.

ولهذا ترك عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر الخلافة شورى، ولكنه خشي أن تتفرَّق الآراء، فجعل الشورى في الستة الذين هم أهل للخلافة.

حكم الشورى:

يفيد ظاهر الأمر الوجوب لقوله: (وشاورهم) فهو يقتضي الوجوب في الشورى وحكى الرازي عن الشافعي أنه حمل الأمر على الندب [تفسير الفخر ج9 ص67].

والمستفاد من كلام القاضي ابن العربي الأشبلي السنية حيث ذكر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنه قال في حديث الإفك حين خطب: «أشيروا عليّ في أناس أبنوا أهلي والله ما علمتُ على أهلي إلا خيراً»[ما ذكر ابن العربي أنه ثبت هو ما في صحيح مسلم تحت رقم 2134] يعني بقوله: أبنوهم عيَّروهم.

ونقل بعد ذلك ما قاله رجل من الأنصار، من الأوس أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فيه بأمرك.

وما أجاب به سعد بن عبادة سيد الخزرج، حيث قال: لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله.

فقام أسيد بن حضير وردَّ على سعد بن عبادة، حدث ما حدث من تثاور الحيين ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر وهو يخففهم حتى سكتوا وخمدت المحاورة بينهم.

ثم عقَّب على ذلك بقوله: (وكانت هذه فائدة لمن بعده ليستنَّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في المشاورة وعقَّب على ذلك بقصة الاستشارة في أسرى بدر، وهو لا يميل إلى الوجوب لأنه ختم ما نقله بقوله: وهذا حديث صحيح، وهو على النحو الأول أراد أن يختبر ما عندهم في قرابتهم وحال أنفسهم فيما يفعل بهم) [أحكام القرآن لابن العربي ج1 ص298]، والواضح من الآية والوقائع وجوب الشورى.

الشورى الحديثة:

افتتن الناس بالنظام الديمقراطي ذهاباً منهم إلى أنه المثال المحتذى، وبالغوا في ادِّعاء أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.

ولا ندَّعي أن هذا النظام لم يأتِ بشيء لكن له معايب وأشدها معايب الاختيار للمرشَّحين لإبداء الرأي فيهم وهم المنتخبون فهذه الأمَّة الكبرى الديمقراطية الولايات المتحدة تحت رحمة الإسرائيليين فرئيسها إن لم يرضَ عليه اليهود لا يتمكن من مقعد رئاسة الجمهورية.

فالديمقراطية الرائجة اليوم تعمل فيها المادة عملها؛ لأنَّ المرشَّحين لأن يكونوا أصوات الأمَّة يبذلون ما يبذلون من الأموال لأجل اكتساب الأصوات.

وتدخل المادة لابدَّ أن يكون له تأثيره بإقصاء من يستحق ونجاح من لا يوازيه وعلى كل فهذه الديمقراطية الحاضرة المأخوذ بها اليوم لها محاسنها ولها مساوئها، ويختلف الحال باختلاف الأمم، فالتي يكون مستواها الأخلاقي أسمى تقل فيها مساوئ الديمقراطية والتي تنحطُّ تتدلى ديمقراطيتها.

المشاورة الإسلامية:

إنَّ المسلمين لو يأخذون بما ربَّى عليه الإسلام المسلمين في العصور الفضلى من المشاورة على أفضل الوجوه، وبنَوا عليها حياتهم وساروا بها على سنن التقدم لاستغنوا عما هم مُتشبثون به من التقليد للغرب.

والأدهى من الكل التقليد للمبادئ المنافية للإسلام والمناهضة لكل دين والبعيدة عن المشاورة الإسلاميَّة ما سيؤدي بمن سار على ذلك الغرار أن يبقى في حيرة وتيه وهي لا صلة لها بالإسلام.

إنَّ روح إيجاد المشاورة الحقَّة التي دعا إليها الإسلام ونادى بها في كل ميدان هي في الإخلاص لإقامة المبادئ الإسلامية بأن تكون الغاية، أن هذه المبادئ تنفذ دون أية غاية من الغايات كما كان عليه سلفنا الصالح الذين قامت على كواهلهم المدنية الإسلاميَّة ولا غاية لهم إلا أن تكون كلمة الله هي العليا.

وبهذه الروح استطاع الإسلام أن ينفذ بمبادئه إلى هذه المجموعة الإسلاميَّة وتصبح أمة إسلامية.

ورجوعنا إلى أصولنا يتوقَّف على تكييف تربيتنا من جميع وجوهها اجتماعية وغيرها على الروح الإسلاميَّة لا في البرامج فحسب بل مع ذلك أن يكون المتولون للتربية مُتشبِّعين بالروح الإسلاميَّة مؤمنين بأنها المرهم الوحيد لتقدمنا ونهضتنا وأملنا قوي في النهضة الإسلاميَّة الحاضرة، وإن كانت في ارتجاج وتباعد فيما بينها أن تصبح وشعارها ما ركَّز عليه الإسلام من مبادئ تربوية ليعيش عليها المسلمون ويقيموا عليها كيانهم، وأن يكون القرن الخامس عشر الذي سنستقبله عن قريب قرن النهضة الإسلاميَّة الصادقة قد عاد المسلمون فيه إلى سيرتهم الأولى واسترجعوا ما سلب منهم وتمكنوا من إعادة المدنيَّة الإسلاميَّة مُشعَّة ناضرة.

تكوين القيم:

اعتنى الإسلام في مقدمة ما اعتنى به؛ القيم وأرادها أن تكون محركات للنهوض بالمسلمين حتى يأخذوا في أسباب التقدُّم وإنشاء مدنيَّة تفيد العالم بأسره والقيم مثلها في المجتمع مثل القلب فكما أنَّ القلب إذا صلح؛ صلح الجسد كله وإذا فسد، فسد الجسد كله، كذلك القيم التي يتربَّى عليها الناس إذا صلحت، صلحت الأمَّة كلها وإذا فسدت، فسدت الأمَّة كلها.

ومن هنا جعل الإسلام من أسس تربيته إيجاد قيم سامية، يكون الأخذ بها مدعاة للنهوض والتقدم.

قاعدة القيم في الإسلام:

قد يذهب الذاهبون إلى أنَّ الإسلام لم يضبط القيم وتركها مهملة، فكل ما تسمَّى باسم الدين جدير بأن يقبل وينتحل.

لا ريب أنَّ الإسلام قد حدَّد للقيم حداً لا يدعُ النفوس حيرى أو مُتعطِّشة إلى الوقوف على اتجاهه وركَّزها على قاعدة ثابتة كقاعدة التمثال.

ونظفر بهذا الاتجاه فيما قرَّره الإسلام بكلمة الفصل، وهو أنه أبى في صراحة أن يكون المجتمع الإسلامي في تبعية لغيره.

ونظفر بإرادة السمو بالمجتمع الإسلامي من التبعية في كل معاني الشريعة سواء منها ما كان من علاقة الإنسان بربِّه، وما كان منها راجعاً إلى الاجتماعيات ونراه في هذا العدد قد تناول الجزئيات التي يتغافل عنها الرأي بادئ ذي بدء ويظنها من المحقرات كالزينة واللباس، إن تناول المحور وبناه على الاستقلال والاضطلاع بالأمر دون الارتكاز على الغير خوفاً من أن تنبت النفوس على حبِّ الاتكال وتذهب من العقول موهبة الابتكار والإنشاء. ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18].

والاستقلال الفكري قد جسَّمه الإسلام وتتبعه حتى في الخفيات لتعويد المجتمعات الإسلاميَّة على الخلق المبتكر والإحداث الجديد.

ولما حافظ المجتمع الإسلامي في عصوره الأولى على استقلاله الفكري بهر الأنظار، وأتى بالمعجزات البيِّنات بما تمَّ على أيدي رجاله من الأعمال الخالدة ثم إنه لما حاد انحنى عن طريقته المثلى وجرى وراء تقليد الأمم السابقة، وانحطَّ المستوى، وأصبح يذهب إلى الوراء ونسي أن يذهب إلى الأمام، إذ التقليد في الحقيقة نظرة إلى الوراء تلهي عن الأمام وتعطل العقول.

والإسلام ها هنا قد كان دقيق النظرة متبيناً لأسباب الإثارة النفسية حتى تسير النفوس بمقادها.

ووراء هذا أنه لا يريد أن يحدث فراغاً بين الأمم وأن يباعد بينها وأن يحول بينها وبين الاتصال، فما يتراءى في أنَّ هذا الاستقلال في القيم ينزع إلى الفراغ بين الأمم ليس بصحيح، وإنما يريد أن تكون للإسلام قوميته التي هي في آن واحد لها طابعها وروحها ولها وشائج تربط بين المسلمين وبين من يعايشونهم.

وحتى لا تذهب الظنون كل مذهب نقرِّر قاعدة أخرى من قواعد الإسلام في الاستقلال الذاتي للفرد المسلم ليتكل على نفسه إذا أمر المسلم أن يستغني بنفسه عن غيره فلا يسأل غيره شيئاً ولو مناولة سوطه إذا سقط منه وهو على دابته، مع أنه أقام من الدين أخوَّة هي الأخوة الإسلامية، وقرَّرها في النفوس أشد تقرير.

وحينئذ المسلم أخو المسلم ولكنه غني بنفسه ليعيش لنفسه وإخوانه.

وهل يعتقد أحد أن الإسلام لما أمر المسلم أن يكون غنياً بنفسه أمره بذلك لينفض يديه من إخوانه، كلا.

وكذلك هذا المجتمع الإسلامي غني بنفسه له استقلاله في مقوماته، وهو مع ذلك مترابط متراص مع من يشاركه في الخلق من نفس واحدة.

فاعلية الإسلام في تكوين القيم:

على المسلمين أن يفهموا روحَ الإسلام ويتصيَّدوا ما في الإسلام من آيات خلافته، ويبحثوا عن ذرَّاته التي تستطيع أن تفعل ما تفعله الذرة اليوم فتهزُّ هذه العوالم التي كانت يحسب أنها حالمة لأنها في ارتباطها الإسلامي كانت في محاكاة جريئة لهذا البناء الشامخ الذي كل لبنة من لبناته لها من التأثير والفاعلية ما هو شديد التأثير وبالغ المفعول فالإسلام الذي استطاع بفتحه أن ينشئ هذا العالم الإسلامي في استطاعته اليوم أن ينشئ عالماً مثالياً في قيمه وأفكاره وكل ما هو من شروط الحضارة.

إنَّ الإسلام مثل القوة الكهربائية التي تستطيع أن تكون مُسيَّرة، وأن تكون منيرة وأن تحدث أي سبب يتصرف في المرافق الإنسانية، وشرط هذا كله أن نتصرَّف في الإسلام التصرف الحكيم.

بين الأزمة في القيم وحلها:

وما نراه من أزمة القيم في المجتمع الإسلامي رغم المبادرة الفعلية إلى الحل تبعاً لأزمة الفكر يتطلب تضحية جريئة فالقيم التي اتَّضح أنها لا تتمتع بالصلاحية ولا تستطيع أن تحلق معنا في الأجواء التي نريد التحليق فيها، مما ورثناه من عصور القهقرى.

وفي طليعة ما يضحي به المغالطة النفسية إذ الكثير من أداؤنا سببه الإشفاق من خرق المظاهر التي تربينا الحقائق على غير وجهها فأنستنا وجه الحقيقة، فلا بدَّ من حمل نفوسنا على النظر بدون مغالطة حتى نتبين في أية نقطة موقفنا، ومبلغنا من شأو غيرنا ليكون مقياسنا صحيحاً.

وبذلك لا نعود إلى النقطة التي تسلسلت بنا إلى ما نشتكي منه، تلك النقطة الشبيهة بعض الشبه بما نحن فيه اليوم، حين أقبلت الدنيا على العالم الإسلامي تجر أذيالها فما زجته نفسية جعله ينظر إلى القيم بنظرة غريبة أثرت فيه يوماً فيوماً حتى أبغضت إليه العمل، وصار بالصورة التي لا تنكر.

وهو ما تنبأ به الإسلام لهذا المجتمع إذا فتحت له الأرض فستصيبه التخمة إذا هو لم يحتمِ بالحسية اللازمة، وهو ما دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يتصلَّب كي تكون حياة المسلمين مُتدرجة كيلا يفقدوا قيمهم.

خطة الإسلام في القيم:

سار الإسلام في القيم شأنه في أصوله كلها من أنه يتتبع طبيعة النشأة التي تنمو من ضعف إلى قوة مثل صنيعه في الدولة إذ وضع أسسها فجاءت الخلافة تبنى على تلك الأصول، وكذلك يبني كل من توفرت له وسائل الإنشاء في الإسلام.

كذلك القيم وضع الإسلام أصولها وترك لنا المجال فسيحاً لإقامة الذي نريد إقامته على حسب ما أحبَّ الإسلام ووضعه بين أيدينا ميزاناً للقيم، وهو ميزان الحق فنزن به القيم، ونزن به أنفسنا، فكلما استبان لنا أننا لسنا على شريعة من الحق رجعنا إليه وملنا إليه ورضينا بأحكامه، وهذا هو الضمان لأن نعيش في هذا العالم المتحرك المتقلب المتبلد الأجواء وهو الجاذبية المسيطرة على القلوب حتى تتقارب وتتلاقى.

من مواقف الإسلام التربوية:

وقف الإسلام موقفاً بعيد المدى لا تنتهي خطواته إفساحاً لنا في مجال الحضارة حتى لا نقف بها موقفاً يجعلها ساكنة لا حراك لها أو تمشي القهقرى ويتجلى هذا الموقف في حادثة خاصَّة وهي أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم أن يؤبِّروا النخل فلما لم يؤبروه لم يلحّ فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنكم به» [ابن ماجة ج2 ص825].

وفي هذا الحديث أمران:

أولهما: الإفساح في المجال الحضاري وذلك بأن تجتهد العقول في التقدم بدون أن يقيدها قيد يقف بها في أثناء سيرها الحتمي المواصلة، والضروري التقدم وهو ما تتطلبه الحياة في عجلتها حتى لا تقف عن الدوران فإن ما وقفت كان وقوفها معاداً لما هو ضروري لها.

وثانيهما: إظهار أنَّ التجربة أمر يطلع على خفايا الأمور فالقصد من أمره صلى الله عليه وآله وسلم بعدم التأبير هو أن لا يأخذ المسلمون الأمور بدون تجربة، وقد أبدى هذا الحديث موقفاً له وزنه واعتباره وهو أنَّ الأمور الدنيويَّة يتوقف تحقيقها على التجارب دون تلق لا يؤيده الواقع.

والتجربة لا تقتصر على الأمور العلمية من زراعية وغيرها بل هي محك النظر في سائر القضايا، وهي مدعاة لأن يكون المرء في حياته غير أسير معلومات غير صحيحة كما هو الشأن في العادات التي لا صلة لها بالحقائق وتورث التجربة أن المجرِّب لا يتلقى شيئاً من المعلومات العاديَّة والنظريَّة دون أن يعرضها على غربال الواقع، والنظر الفاحص.

وتنبَّه ابن خلدون المؤرِّخ إلى هذا المعنى في التاريخ فوقف من وساوس الأغراب موقفاً رائده العقل فجاء تاريخه كما قال: بأنَّه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق.

ولو أنَّ الطريقة الخلدونيَّة اتبعت واتسعت مسالكها لكان للبحث العلمي والنظريات العلمية ما يحقق نتائج باهرة في التقدم والابتداع.

أما والناس أهملوا التجربة وأهملوا عرض ما يعرض على النظر الفاحص فبالطبع أن تكون الحيدة والميل عن المنهج المؤدي إلى الابتكار والابتداع، والإعراض عن الأمر الثاني وهو التجربة وقع الناس فيه في العصور التي انخلقت فيها الأفكار، وأما العصور الذهبية فهي قد أخذت بالأمرين اللذين أشار إليهما الحديث النبوي المتقدم.

هذا الأمران من أسس التربية الاجتماعية الإسلاميَّة التي تنفتح بهما أنواع المعرفة والابتكار.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين