فوائد ومختارات من كتاب (النبأ العظيم) لدراز

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فهذه مختارات من كتاب "النبأ العظيم" للشيخ محمد عبد الله دراز، دار طيبة- الرياض، ط2- 1421.

1- لو نظرت في الذنوب التي عاتب الله فيها نبيه  لوجدتها تنحصر في شيء واحد؛ وهو أنه عليه السلام كان إذا ترجح بين أمرين ولم يجد فيهما إثما اختار أقربهما إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة الشبه في دين الله.

لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحا، أو جاوزه خطأ ونسيانا، بل كل ذنبه أنه مجتهد بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرا فتخير، هبْه مجتهدا أخطأ باختيار خلاف الأفضل، أليس معذورا ومأجورا؟ على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية، وإنما نبهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية. هل ترى في ذلك ذنبا يستوجب عند العقل هذا التأنيب والتثريب؟ أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب؟. ص28-29.

2- كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن، وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36]. ص47.

3- قال الشيخ محمد دراز في سياق كلامه عن اليهود، وكيف تحدث عنهم القرآن: انظر كيف يقول فيهم: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111]، وقد فعل، ثم يقول: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112]، ويقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167].

فيا عجبا لهذه الآيات! هل كانت مؤلفة من حروف وكلمات؟ أم كانت أغلالا وضعت في أعناقهم إلى الأبد، وأصفادا شدت بها أيديهم فلا فكاك؟ ألا تراهم منذ صدرت عليهم هذه الأحكام أشتاتا في كل واد، أذلاءَ في كل ناد، لم تقم لهم في عصر من العصور دولة، ولم تجمعهم قط بلدة، وهم اليوم على الرغم من تضخم ثروتهم المالية إلى ما يقرب من نصف الثروة العالمية لا يزالون مشردين ممزقين عاجزين عن أن يقيموا لأنفسهم دويلة كأصغر الدويلات، بل تراهم في بلاد الغرب المسيحية يسامون أنواع الخسف والنكال، ثم تكون عاقبتهم الجَلاء عنها مطرودين، وبلاد الإسلام -التي هي أرحب أرض الله صدرا- إنما تقبلهم رعية محكومين لا سادة حاكمين.

وهل أتاك آخر أنبائهم؟ لقد زينت الآن لهم أحلامهم أن يتخذوا من (الأرض المقدسة) وطنا قوميا تأوي إليه جالياتهم من أقطار الأرض، حتى إذا ما تألف منهم هنالك شعب ملتئم الشمل، وطال عليهم الأمد فلم يزعجهم أحد= سعوا إلى رفع هذا العار التاريخي عنهم بإعادة ملكهم القديم في تلك البلاد، وعلى برق هذا الأمل أخذ أفواج منهم يهاجرون إليها زَرافاتٍ ووِحدانا، وينزلون بها خفافا أو ثقالا، فهل استطاعوا أن يتقدموا هذه الخطوة الأولى -أو لعلها الأولى والأخيرة- مستندين إلى قوتهم الذاتية؟ كلا، ولكن مستندين إلى حبل من الناس، فماذا تقول؟ قل: صدق الله، ومن أصدق من الله حديثا، أمَّا ظنهم الذي يظنون؛ وهو أنهم بمزاحمتهم للسكان في أرضهم وديارهم يمهدون لما يحلمون به من مزاحمتهم بعد في ملكهم وسلطانهم= فذلك ما دونه خَرْط القَتاد، يريدون أن يبدلوا كلام الله، ولا مبدل لكلماته {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53]، والله من ورائهم محيط. ص57-58.

قال مقيده: كلام الشيخ هذا كان قبل قيام دولة اليهود بسنوات، ثم حدث ما حدث لأمر يريده الله، وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.

4- هذا الكتاب الكريم يأبى بطبيعته أن يكون من صنع البشر، وينادي بلسان حاله أنه رسالة القضاء والقدر، حتى إنه لو وجد مُلْقًى في صحراء لأيقن الناظر فيه أن ليس من هذه الأرض منبعه ومنبته، وإنما كان من أفق السماء مطلعه ومهبطه. ص96.

5- قال الشيخ محمد دراز في سياق كلامه عن تحدي القرآن للعرب أن يأتوا بسورة من مثله: انظر كيف تنزل معهم في هذه المرتبة من طلب المماثل إلى طلب شيء مما يماثل؛ كأنه يقول: لا أكلفكم بالمماثلة العامة؛ بل حسبكم أن تأتوا بشيء فيه جنس المماثلة ومطلقها، ربما يكون مثلا على التقريب لا التحديد، وهذا أقصى ما يمكن من التنزُّل، ولذا كان هو آخرَ صيغ التحدي نزولا، فلم يجئ التحدي بلفظ (من مثل) إلا في سورة البقرة المدنية، وسائر المراتب بلفظ (مثله) في السور التي نزلت قبل ذلك بمكة، فتأمل هذا الفرق فإنه طريف، وأسأل الله أن يوفقنا وإياك لفهم أسرار كتابه، والانتفاع بهدايته وآدابه. ص105 حاشية.

6- الجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شؤون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسَّها رحِما بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به؛ بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين.

لا يوما أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلا، ولا الساكن يبغي عن منزله حِوَلا، وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان. ص115.

7- قال الشيخ دراز في سياق كلامه عن الأسلوب النبوي والأسلوب القرآني: ونحن نرى الأسلوب القرآني فنراه ضربا وحده، ونرى الأسلوب النبوي فنراه ضربا وحده لا يجري مع القرآن في ميدان إلا كما تجري محلِّقاتُ الطير في جو السماء لا تستطيع إليها صعودا، ثم نرى أساليب الناس فنراها على اختلافها ضربا واحدا لا تعلو عن سطح الأرض؛ فمنها ما يحبو حبوا، ومنها ما يشتد عدوا، ونسبة أقواها إلى القرآن كنسبة هذه (السيارات الارضية) إلى (السيارات السماوية). ص125.

8- كل من يرى بعينين أو يسمع بأذنين إذا وضع القرآن بإزاء غير القرآن في كفتي ميزان، ثم نظر بإحدى عينيه أو استمع بإحدى أذنيه إلى أسلوب القرآن، وبالأخرى إلى أسلوب الحديث النبوي، وأساليب سائر الناس، وكان قد رُزق حظا ما من الحاسة البيانية والذوق اللغوي فإنه لا محالة سيؤمن معنا بهذه الحقيقة الجلية؛ وهي أن أسلوب القرآن لا يدانيه شيء من هذه الأساليب كلها، ونحسب أنه بعد الإيمان بهذه الحقيقة لن يسعه إلا الإيمان بتاليتها؛ استدلالا بصنعة (ليس كمثلها شيء) على صانع {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. ص125-126.

9- قال الشيخ دراز في سياق كلامه عن (القشرة السطحية للجمال القرآني): الله جلت قدرته أجرى سنته في نظام هذا العالم أن يُغَشِّي جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة وجمال؛ ليكون ذلك من عوامل حفظها وبقائها بتنافس المتنافسين فيها وحرصهم عليها.

انظر كيف جعل باعثة الغذاء ورابطة المحبة قِواما لبقاء الإنسان فردا وجماعة، فكذلك لما سبقت كلمته أن يصون علينا نفائسَ العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم قضت حكمته أن يختار لها صِوانا يحببها إلى الناس بعذوبته، ويُغريهم عليها بطُلاوته، ويكون بمنزلة الحُداء يستحث النفوس على السير إليها، ويهوِّن عليها وعثاء السفر في طلب كمالها= لا جرم اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالَب العذب الجميل، ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبدا في أفواه الناس وآذانهم ما دامت فيهم حاسةٌ تذوق وحاسةٌ تسمع، وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سره، وينفُذون بها إلى بعيد غَوْره {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ص133.

10- وكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان -لما أُشربه من روح الوحي- أوجزَ وأفصح كلام تكلم به الناس= لا يبلغ في وجازته واكتنازه وامتلائه بتلك الثروة المعنوية معشار ما تجده من ذلك في القرآن الكريم. ص142 حاشية.

11- قال الشيخ دراز في كلامه عن غزارة معاني القرآن: ألم تر كيف وسِع الفرقَ الإسلامية على اختلاف منازعها في الأصول والفروع؟ وكيف وسِع الآراءَ العلمية على اختلاف وسائلها في القديم والحديث؟ وهو على لِينه للعقول والأفهام صُلبٌ متين، لا يتناقض ولا يتبدل، يحتج به كل فريق لرأيه، ويدعيه لنفسه، وهو في سموه فوق الجميع يُطل على معاركهم حوله، وكأن لسان حاله يقول لهؤلاء وهؤلاء: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 84]. ص148.

12- دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية إنها مُقحَمة، وفي بعض حروفه إنها زائدة زيادةً معنوية، ودع عنك قول الذي يستخف كلمة (التأكيد) فيرمي بها في كل موطن يظن فيه الزيادة، لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيدِ عليه فتصلحَ لتأكيده أو لا تكون، ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا التأكيد أو لا حاجة له به.

أجل، دع عنك هذا وذاك، فإن الحكم في القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهِها إنما هو ضرب من الجهل -مستورا أو مكشوفا- بدقة الميزان الذي وضع عليه أسلوب القرآن.

وخذ نفسك أنت بالغوص في طلب أسراره البيانية على ضوء هذا المصباح، فإن عُمِّي عليك وجه الحكمة في كلمة منه أو حرف فإياك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظانون؛ ولكن قل قولا سديدا هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف، قل: الله أعلم بأسرار كلامه، ولا علم لنا إلا بتعليمه. ثم إياك أن تركن إلى راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار قائلا: أين أنا من فلان وفلان؟ كلا، فرب صغير مفضول قد فطن إلى ما لم يفطن له الكبير الفاضل.. فجِدَّ في الطلب وقل: رب زدني علما، فعسى الله أن يفتح لك بابا من الفهم تكشف به شيئا مما عُمِّي على غيرك، والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور. ص162-163.

13- معنى الكاف في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]:

أكثر أهل العلم قد ترادفت كلمتهم على زيادة الكاف، بل على وجوب زيادتها في هذه الجملة؛ فرارا من المحال العقلي الذي يفضي إليه بقاؤها على معناها الأصلي من التشبيه؛ إذ رأوا أنها حينئذ تكون نافية الشبيه عن مثل الله، فتكون تسليما بثبوت المثل له سبحانه، أو على الاقل محتملة لثبوته وانتفائه..

وقليل منهم من ذهب إلى أنه لا باس ببقائها على أصلها؛ إذ رأى أنها لا تؤدي إلى ذلك المحال لا نصا ولا احتمالا؛ لأن نفي مثل المثل يتبعه في العقل نفي المثل أيضا.

وذلك أنه لو كان هناك مثل الله لكان لهذا المثل مثل قطعا وهو الإله الحق نفسه، فإن كل متماثلين يعد كلاهما مثلا لصاحبه، وإذا لا يتم انتفاء مثل المثل إلا بانتفاء المثل وهو المطلوب، وقصارى هذا التوجيه -لو تأملته- أنه مصحِّح لا مرجِّح؛ أي أنه ينفي الضرر عن هذا الحرف، ولكنه لا يثبت فائدته ولا يبين مسيس الحاجة إليه؛ ألست ترى أن مؤدي الكلام معه كمؤداه بدونه سواء، وأنه إن كان قد ازداد به شيئا فإنما ازداد شيئا من التكلف والدوران وضربا من التعمية والتعقيد، وهل سبيله إلا سبيل الذي أراد أن يقول: "هذا فلان" فقال: "هذا ابن أخت خالة فلان"؟ فمآله إذًا إلى القول بالزيادة التي يسترونها باسم التأكيد، ذلك الاسم الذي لا تعرف له مسمى ها هنا؛ فإن تأكيد المماثلة ليس مقصودا البتة، وتأكيد النفي بحرف يدل على التشبيه هو من الإحالة بمكان.

ولو رجعت إلى نفسك قليلا لرأيت هذا الحرف في موقعه محتفظا بقوة دلالته، قائما بقسط جليل من المعنى المقصود في جملته، وأنه لو سقط منها لسقطت معه دعامة المعنى، أو لتهدم ركن من أركانه، ونحن نبين لك هذا من طريقين، أحدهما أدق مسلكا من الآخر:

الطريق الأول: وهو أدنى الطريقين إلى فهم الجمهور: أنه لو قيل: (ليس مثله شيء) لكان نفيا للمثل المكافىء؛ وهو المثل التام المماثلة فحسب؛ إذ إن هذا المعنى الذي ينساق إليه الفهم من لفظ المثل عند إطلاقه، وإذًا لدب إلى النفس دبيبُ الوساوس والأوهام: أنْ لعل هنالك رتبةً لا تضارع رتبة الألوهية ولكنها تليها، وأن عسى أن تكون هذه المنزلة للملائكة والأنبياء، أو للكواكب وقوى الطبيعة، أو للجن والأوثان والكهان، فيكون لهم بالإله الحق شَبَهٌ ما في قدرته أو علمه، وشرك ما في خلقه أو أمره، فكان وضع هذا الحرف في الكلام إقصاءً للعالم كله عن المماثلة وعما يشبه المماثلة وما يدنو منها، كأنه قيل: ليس هناك شيء يشبه أن يكون مثلا لله، فضلا عن أن يكون مثلا له على الحقيقة، وهذا باب من التنبيه بالأدنى على الأعلى، على حد قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] نهيا عن يسير الأذى صريحا، وعما فوق اليسير بطريق الأحرى.

الطريق الثاني: وهو أدقهما مسلكا: أن المقصود الأولي من هذه الجملة هو نفي الشبيه، وإن كان يكفي لأدائه أن يقال: (ليس كالله شيء)، أو (ليس مثله شيء)= لكن هذا القدر ليس هو كل ما ترمي إليه الآية الكريمة، بل إنها كما تريد أن تعطيك هذا الحكم تريد في الوقت نفسه أن تلفتك إلى وجه حجته وطريق برهانه العقلي.

ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفي عن امرئ نقيصة في خلقه فقلت: "فلان لا يكذب ولا يبخل" أخرجت كلامك عنه مخرج الدعوى المجردة عن دليلها، فإذا زدت فيه كلمة فقلت: "مثلُ فلان لا يكذب ولا يبخل" لم تكن بذلك مشيرا إلى شخص آخر يماثله مبرأ من تلك النقائص، بل كان هذا تبرئة له هو ببرهان كلي؛ وهو أن من يكون على مثل صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك؛ لوجود التنافي بين طبيعة هذه الصفات وبين ذلك النقص الموهوم.

على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الحكيمة قائلة: (مثله تعالى لا يكون له مثل)؛ تعني أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى لا يمكن أن يكون له شبيه، ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه. فلا جرم جيء فيها بلفظين، كل واحد منهما يؤدي معنى المماثلة؛ ليقوم أحدهما ركنا في الدعوى، والآخر دعامة لها وبرهانًا، فالتشبيه المدلول عليه (بالكاف) لـمَّا تَصوَّب إليه النفي تأدَّى به أصل التوحيد المطلوب؛ ولفظ (المثل) المصرح به في مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب.

واعلم أن البرهان الذي ترشد إليه الآية على هذا الوجه برهان طريف في إثبات وحدة الصانع، لا نعلم أحدا من علماء الكلام حام حوله؛ فكل براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدد بإبطال لوازمه وآثاره العملية حسبما أرشد إليه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ذلك ينقض فرض التعدد من أساسه، ويقرر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار، فكأننا بها تقول لنا: إن حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها، كلا، فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي في الناقص، أما الكمال التام المطلق الذي هو قِوام معنى الإلهية فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنَيْنِيَّة؛ لأنك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدما على كل شيء وإنشاء لكل شيء: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشورى: 11]، وحققت سلطانا على كل شيء وعلوا فوق كل شيء: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الشورى: 12]، فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضتَ؛ إذ تجعل كل واحد منهما سابقا مسبوقا، منشِئاً منشَأً. ومستعليا مستعلى عليه، أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما؛ إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقا ولا مستعليا، فأنى يكون كل منهما إلهًا، وللإله المثل الأعلى؟!

أرأيت كم أفدنا من هذه (الكاف) وجوها من المعاني كلها شاف كاف؟

فاحفظ هذا المثال وتعرَّف به دقة الميزان الذي وضع عليه النظم الحكيم حرفا حرفا. ص163-173 باختصار يسير.

14- قال الشيخ دراز في سياق كلامه عن تناسب سور القرآن وائتلافها: اعمَد إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد -وما أكثرها في القرآن، فهي جمهرته- وتنقل بفكرتك معها مرحلة مرحلة، ثم ارجع البصر كرتين: كيف بدئت؟ وكيف ختمت؟ وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت؟ وكيف تلاقت أركانها وتعانقت؟ وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها، ووطَّأت أولاها لأخرها؟

وأنا لك زعيم بأنك لن تجد البتة في نظام معانيها أو مبانيها ما تعرف به أكانت هذه السورة قد نزلت في نجم واحد أم في نجوم شتى، ولسوف تحسب أن السبع الطول من سور القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة، حتى يحدثك التاريخ أنها كلها أو جلها قد نزلت نجوما، أو لتقولَن: إنها إن كانت بعد تنزيلها قد جمعت عن تفريق، فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع؛ كمثل بنيان كان قائما على قواعده فلما أُريد نقله بصورته إلى غير مكانه قُدِّرت أبعاده ورُقِّمت لبناته، ثم فُرِّق أنقاضا، فلم تلبث كل لبنة منه أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصا يشد بعضه بعضا كهيئته أول مرة.

أجل، إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثا من المعاني حشيت حشوا، وأوزاعا من المباني جمعت عفوا؛ فإذا هي -لو تدبرت- بنيةٌ متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول، وأقيم على كل أصل منها شعب وفصول، وامتد من كل شعبة منها فروع تقصر أو تطول؛ فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد قد وضع رسمه مرة واحدة، لا تحس بشيء من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيء من الانفصال في الخروج من طريق إلى طريق، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضام والالتحاق. كل ذلك بغير تكلف ولا استعانة بأمر من خارج المعاني أنفسها، وإنما هو حسن السِّياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرض ومقطعه وأثنائه؛ يريك المنفصل متصلا، والمختلف مؤتلفا. ص194-195.

15- عقَّب الشيخ دراز على اختيار له في التفسير -يخالف فيه ما ذهب إليه المفسرون- بقوله: وبعد فما بنا -علم الله- حبُّ الخلاف ولا شهوةُ الإغراب، ولكنها أمانة العلم والنصيحة لكتاب الله تعالى حملتنا على أن نقول فيه أحسن ما نعلم، ثم شجعتنا على أن نسجل بالقلم هذا الذي قلناه بالفم، لنعرضه في الطِّرس على أنظار القارئين، كما عرضناه في الدرس على أسماع الطالبين، لعل هؤلاء واجدون فيه من مواضع النقد والتمحيص ما لم يجده أولئك، وهذا الباب من أبواب البحث والاستنباط الذي لا يمس أصلا من أصول الدين، ولا يحل حراما أو يحرم حلالا= لن يزال مفتوحا لكل مسلم أعطاه الله فهما في كتابه، على شريطة القصد والأناة في سير العقل، ومع الاستضاءة في هذا السير بمصباحين من اللغة والشرع، على الحد الذي وصفنا، والمنهج الذي رسمنا. وبالله التوفيق. ص212 حاشية.

16- لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات، وفي أساليب تربيته معجزات، وفي نبوءاته الصادقة معجزات، وفي تشريعاته الخالدة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات ومعجزات= لعمري إنه في ترتيب آيِه على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات!. ص264.

تمت بحمد الله

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين