نبي الرحمة (47)

الصفات والأخلاق:

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمتاز من كمال خَلْقه وكمل خُلُقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره، ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر. سنورد ملخصاً في بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الإحاطة.

جمال الخَلْق:

قالت أم معبد الخزاعية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم- وهي تصفه لزوجها، حين مر بخيمتها مهاجراً: ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ أَبْلَجُ الْوَجْهِ حَسَنُ الْخُلُقِ لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَةٌ-عِظَمُ البطن مع استرخاء أسفلِه- وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صعْلَةٌ- صغر الرأس- وَسِيمٌ قَسِيمٌ فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ- شديد سواد العين في شدة بياضها- وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ -الشعر النابت على الجفن فيه طول- وَفِي صوَتِهِ صَحَلٌ- كالبحة وهو ألا يكون حاد الصوت- وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ- طول العنق- وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ أَحْوَرُ أَكْحَلُ أَزَجّ- دقيق شعر الحاجبين مع طولهما- أَقْرَنُ - مقرون الحاجبين- شَدِيدُ سَوَادِ الشّعْرِ إذَا صَمَتَ عَلاهُ الْوَقَارُ وَإِذَا تَكَلّمَ عَلاهُ الْبَهَاءُ أَجْمَلُ النّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَحْسَنُهُ وَأَحْلاهُ مِنْ قَرِيبٍ، حُلْوُ الْمَنْطِقِ، فصل لا نَزْرٌ ولا هَذَرٌ- الهذر من الكلام ما لا فائدة فيه والنزر: القليل- كَأَنّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَنحدرنَ-كلامُه مُحْكَمٌ بليغٌ- رَبْعَةٌ- ليس بالقصير ولا بالطويل- لا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ ولا تَشْنَؤُهُ مِنْ طُولٍ، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ فَهُوَ أَنْضَرُ الثلاثَةِ مَنْظَراً، وَأَحْسَنُهُمْ قَداً، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفّونَ بِهِ، إن قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ، وَإن أَمَرَ تَبَادَرُوا إلَى أَمْرِهِ مَحْفُودٌ- مخدوم- مَحْشُودٌ- يجتمع الناس حواليه- لا عَابِسٌ وَلا مُفْنِدٌ- ليس عابس الوجه وليس منسوباً إلى الجهل وقلة العقل-. وقال علي بن أبي طالب: لَمْ يَكُنْ بِالطَّوِيلِ الْمُمَغَّطِ- الشديد الطول- وَلاَ بِالْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ - الشديد جعودة الشعر- وَلاَ بِالسَّبِطِ كَانَ جَعْداً رَجِلاً – منسرحاً مسترسلاً- وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهَّمِ- العظيم الجسم- وَلاَ بِالْمُكَلْثَمِ وَكَانَ فِي الْوَجْهِ تَدْوِيرٌ أَبْيَضُ مُشْرَبٌ أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ أَهْدَبُ الأَشْفَارِ جَلِيلُ الْمُشَاشِ وَالْكَتِدِ-مابين الكتفين- أَجْرَدُ- قليل الشعر- ذُو مَسْرُبَةٍ- الشعر الممتد من الصدر الى السرة- شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ-والشثن هو الغليظ- إِذَا مَشَى تَقَلَّعَ كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعاً, بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَجْوَدُ النَّاسِ كَفًّا وَأَشْرَحُهُمْ صَدْراً وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ يَقُولُ نَاعِتُهُ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وفي رواية عنه: أنه كان ضخم الرأس، ضخم الكَراديس-ملتقى العظام- طويل المسْربة، إذا مشى تكفأ تكفياً كأنما ينحط من صبَب. وقال جابر بن سمرة: كان أشكَلَ العينَيْنِ- في بَياضِ عَينِه حُمْرةٌ- ضَليعَ-واسع- الفمِ مَنْهوسَ- قَليلُ لَحمِ- العقِبِ. وقال أبو الطفيل: كان أبيض، مليح الوجه، مقصَّداً-وَسَطاً- وقال أنس بن مالك: كان بسط الكفين. وقال: كان أزهرَ اللون، ليس بأبيض أمهق-شديد البياض- ولا آدم-أسمر- قُبِضَ وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. وقال: إنما كان شيء- أي من الشيب- في صدغيه. وفي رواية: وفي الرأس نَبْذ-شيء يسير-. وقال أبو جحيفة: رأيت بياضاً تحت شفته السفلى: العنفقة. وقال عبد الله بن بسر: كان في عَنفَقَتِه شعرات بيض. وقال البراء: كان مربوعاً بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شَحْمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء لم أر شيئاً قط أحسن منه. وكان يسدل شعره أولاً لحبه موافقه أهل الكتاب، ثم فرَق رأسه بعد. قال البراء: كان أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلُقاً. وسئل أكان وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. وفي رواية: كان وجهه مستديراً. وقالت الربيع بنت معوذ: لو رأيته رأيت الشمس طالعة. وقال جابر بن سمرة: رأيته في ليلة إِضْحِيانٍ- لَيلةٍ يَظهَرُ فيها القَمرُ صافياً- فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى القمر- وعليه حلة حمراء- فإذا هو أحسن عندي من القمر. وقال أبو هريرة: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كأنما الأرض تُطوى له، وإنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث. وقال كعب بن مالك: كان إذا سر استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر. وعرق مرة وهو عند عائشة، فجعلت تبرك أسارير وجهه. وكان إذا غضب أحمر وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنته حب الرمان. وقال جابر بن سمرة: كان في ساقيه حُمُوشة-دقة- وكان لا يضحك إلا تبسماً، وكنت إذا نظرت إليه قلت: أكحل العينين، وليس بأكحل- كانت عينه كحلاء من غير اكتحال- قال ابن العباس: كان أفلَجَ الثَّنيَّتين- منفرجها- إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه. وأما عنقه فكأنه جيدُ دُمْية في صفاء الفضة، وكان في أشفاره غطَف، وفي لحيته كثافة، وكان واسع الجبين، أزج الحواجب في غير قرن بينهما، أَقْنَى الْعَرَنَيْنَ-أنفه دقيق- سهل الخدين، من لُبَّته إلى سُرَّته شعر يجري كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، أشعر الذراعين والمنكبين، سواء البطن والصدر، مسيح الصدر عريضه طويل الزند رحب الراحة سَبْط القَصَب- ليس في ذراعيه وساقيه وفخذيه نتوء ولا تعقد- خُمْصَان الأخْمَصَين- شديد تجافي أخمص القدم عن الأرض- سائل الأطراف-أصابعه طويلة- إذا زال زال قلعاً، يخطو تكَفِّياً ويمشي هوناً. وقال أنس: ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شممت ريحاً قط أو عرفاً قط، وفي رواية: ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح أو عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال أبو جحيفة: أخذت بيده، فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك. وقال جابر بن سمرة- وكان صبياً-: مسح خدي فوجدت لِيَده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جُؤْنَةِ عَطّار. وقال أنس: كأن عرقه اللؤلؤ. وقالت أم سليم: هو من أطيب الطيب. وقال جابر: لم يسلك طريقاً فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه، أو قال: من ريح عرقه. وكان بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده وكان عند ناغض كتفه اليسرى- أَعْلَى الْكَتِف- جُمْعا-, عَلَى هَيْئَة جَمْع الْكَفّ-عليه خِيَلان- جَمْع (خَال)- كأمثال الثآليل.

كمال النفس ومكارم الأخلاق:

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمتاز بفصاحة اللسان وبلاغة القول، مع سلاسة طبع، ونصاعة لفظ وجزالة قول وصحة معان وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وبدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي.

وكان الحلم والاحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفاتٌ أدبه الله بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هَفْوَة، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبراً، وعلى إسراف الجاهل إلا حلماً، وقالت عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها. وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم رضاً. وكان من صفته الجود والكرم يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فَرَسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. وقال جابر: ما سئل شيئاً قط فقال: لا. وكان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح، قال علي: كنا إذا حمي البأس واحمرت الحَدَقُ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. قال أنس: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي- بغَيرِ سَرْجٍ- في عنقه السيف، وهو يقول:(لم تُرَاعوا، لم تُرَاعوا). وكان أشد الناس حياء، قال أبو سعيد الخدري: كان أشد حياء من العذراء في خِدْرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهه. وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، لا يشافه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول.(ما بال أقوام يصنعون كذا). وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك مجاوروه وأعداؤه، وكان يسمى قبل نبوته الأمين، ويُتَحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، روي الترمذي عن علي أن أبا جهل قال له: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فنزل فيهم:{فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام:٣٣] وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. وكان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة: كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وكان أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحداً يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، ويحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره. كان في بعض أسفارة فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: عليَّ ذبحها، وقال آخر: عليَّ سلخها وقال آخر: عليَ طبخها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(وعليَّ جمع الحطب)، فقالوا: نحن نكفيك. فقال:(قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه) وقام وجمع الحطب.

يتبع.......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين