إنَّها البركة

أعمارٌ قصيرة، وأهدافٌ محقَّقةٌ كثيرة، أفرادٌ قليلة، وأعمالٌ منجَزَةٌ جليلة، مواردُ معدودة، وأرزاقٌ دارَّةٌ غيرُ محدودة، نفوسٌ بالهمومِ محصورة، وقلوبُها بالرِّضا مُنشَرِحةٌ مسرورة.

إنَّها البركة!

ومهما اجتهدتَ في التفسير، لن تجدَ جوابًا إلا: إنَّها البركة!

الأرضُ هي الأرضُ مذ فُتِقَتْ ودُحِيَتْ، كُرَةٌ مُفلطَحة، لُبُّها يغلي بالنَّار، وسطحُها ماءٌ وغُبار، تسبَحُ في فَلَكِها وتدُور، ويتعاقبُ فيها استهلاكُ الخلائقِ على مرِّ العُصور، والبشرُ يزرعونَ ويأكلون، يشربونَ ويعصِرون، يَعمُرونَ ويَبنُون، لم تفنَ أو تَبيد، بل تمدُّهم بالجيِّدِ والجديد.

أكان ذلك ذاتيًّا من صُنعِها؟

كلا، والله!

فأنَّى لجَمادٍ أن يَصنعَ وهو المصنوع؟

وكيف له أن يُعيدَ أو يُنشِئ، وهو من عدمٍ أُنشِئ؟

إنَّها البركةُ القديمةُ التي أودَعَها الخالقُ في الأرض، (وباركَ فيها وقدَّرَ فيها أقواتَها).

وأنتَ من تحفظُ تلك البركةَ ومنها تستزيد، أو تمحقُها، فتُبتَلى بالضِّيقِ والضَّنْكِ الشديد.

بالتقوى والإيمانِ تُفتَحُ البركات، بالجِدِّ والعملِ بإحسانٍ تُجتنى الثَّمَرات، بلزومِ الصِّدقِ والأمانة، وتركِ الكذبِ والخيانة؛ تنمو التِّجارات، بِصِلةِ الأرحامِ وحُسنِ الخُلقِ والجِوارِ تُنْسَأُ الأعمارُ وتُبسَطُ الأرزاقُ وتوهَبُ الأُعطِيات، بالجُودِ والإنفاقِ لا ينقُصُ المالُ بل يزيد، وبالشُّكرِ يأتيكَ المزيد، وإنَّما البركةُ مع الجماعة، إنَّما البركةُ مع الجماعة.

هكذا علَّمَنا الصَّادق المصدوق، فلا تتنكَّبِ الطريق، وإن استبطأتَ الرزقَ فأجمِلْ في الطلب، وتجمَّلْ بالصَّبر، والزمْ سُبُلَ التقوى، وخُذْ ما حلَّ، ودَعْ ما حَرُم، واحذرِ الطمع، فإنَّ الدنيا خَضِرةٌ حُلوة، من أخذَها مُستَشْرِفًا شَرِهًا لم يشبَعْ منها، ومن طلبَها بعزَّةِ النفسِ بوركَ له فيها، وكن شريفًا صادقًا في حومةِ السَّعي ومنافسةِ التسويق، ولا تتكثَّرْ بما ليس عندك فتُحرَم، وتُعامَل بخلافِ مقصودِك وتندَم، وتأمَّلْ قولَ المعصومِ بأبي هو وأمي: (ومن ادَّعى دعوًى كاذبةً، ليتكثَّرَ بها، لم يزِدْهُ اللهُ إلا قِلَّة).

أرادَتْ امرأةٌ أن تزهوَ على ضَرَّتِها، وتتشبَّعَ من زوجِها بما لم يُعطِها، فقالَ رسولُ الله: (المتشبِّعُ بما لم يُعطَ كلابسِ ثَوبَي زُور).

فكيف بمن يتشبَّعُ بالوهمِ والخيال، ليَسْتَجِرَّ من جيوبِ الناسِ الأموال؟

إن التسويقَ اليومَ بما في بعضِ ممارساتِه من تزييفٍ وتغريرٍ لهو من أكبرِ أسبابِ محقِ البركة.

درهمٌ مباركٌ بالصِّدقِ والأمانة، خيرٌ من ثروةٍ ممحوقةٍ بالكذبِ والغَررِ والخيانة.

(وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُوا۟ ٱلتَّوۡرَاةَ وَٱلۡإِنجِیلَ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُوا۟ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةࣱ مُّقۡتَصِدَةࣱۖ وَكَثِیرࣱ مِّنۡهُمۡ سَاۤءَ مَا یَعۡمَلُونَ).

نعوذُ بكَ اللَّهُمَّ أن نُسلَبَ البركةَ بسُوءِ العمل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين