سؤال عن حديث إسلام أبي ذر

كتب إلي الأخ العالم أشرف آدم من إفريقيا الجنوبية، يسألني: أورد الإمام مسلم رحمه الله قصة إسلام سيدنا أبي ذر رضي الله عنها من طريقين: طريق حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر، وطريق أبي جمرة عن ابن عباس عن أبي ذر (وأخرج الإمام البخاري قصة إسلامه بهذا الإسناد والسياق أيضا)، وبين المتنين خلاف ظاهر في أكثر من موضع، بل لقائل أن يقول إنهما قصتان، وحاول الحافظ ابن حجر الجمع بين الروايتين إلا أن الجمع الذي ذكره غير مقنع، فهل وقفتم على من رجح أحد الطريقين على الآخر أو هل ترجحون طريقا على طريق؟.

من أخرجه:

قلت: أخرجه مسلم في الفضائل من وجهين:

الأول: حديث عبد الله بن الصامت عن أبي ذر، قال مسلم: حدثنا هداب بن خالد الأزدي، حدثنا سليمان بن المغيرة، أخبرنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام فخرجت، الحديث.‏

وأتبعه بحديث إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شميل، عن سليمان بن المغيرة به، ثم بحديث محمد بن المثنى العنزي، عن ابن أبي عدي، عن ابن عون، عن حميد بن هلال به.

والثاني حديث ابن عباس عن أبي ذر، قال مسلم: وحدثني إبراهيم بن محمد بن عرعرة السامي، ومحمد بن حاتم، - وتقاربا في سياق الحديث واللفظ لابن حاتم – قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا المثنى بن سعيد، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، الحديث.‏

إخراج البخاري لحديث ابن عباس:

لم يخرج البخاري حديث عبد الله بن الصامت لأنه ليس على شرطه، واقتصر على حديث ابن عباس، أخرجه في المناقب، باب قصة إسلام أبي ذر الغفاري، قال: حدثني عمرو بن عباس، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا المثنى، عن أبي جمرة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب، الحديث.

وأخرجه البخاري أيضًا في باب قصة زمزم عن زيد بن أخرم، عن سالم بن قتيبة، عن مثنى بن سعيد به، وأخرجه أيضا في مناقب الأنصار، باب إسلام أبي ذر الغفاري، عن عمرو بن عباس، عن عبد الرحمن بن مهدي به.

الفرق بين الحديثين:

وبين حديثي عبد الله بن الصامت، وعبد الله بن عباس فرق، قال الحافظ ابن حجر: "وقد أخرج مسلم قصة إسلام أبي ذر من طريق عبد الله بن الصامت عنه، وفيها مغايرة كثيرة لسياق ابن عباس".

قلت: في القصتين نوعان من الاختلاف:

الأول: اختلاف الزيادة والنقصان، ففي كلتا القصتين زيادات على الأخرى، والجمع بينهما سهل، فمثلاً قال الحافظ ابن حجر: وفي حديث عبد الله بن الصامت أن أبا ذر أقام ثلاثين لا زاد له، وفي حديث ابن عباس أنه كان معه زاد وقربة ماء إلى غير ذلك. قلت (أي الحافظ ابن حجر): ويحتمل الجمع بأن المراد بالزاد في حديث ابن عباس ما تزوده لما خرج من قومه ففرغ لما أقام بمكة، والقربة التي كانت معه كان فيها الماء حال السفر فلما أقام بمكة لم يحتج إلى ملئها ولم يطرحها.

والثاني: اختلاف تعارض، وهو مشكل، وفيما يلي بيانه:

في رواية عبد الله بن الصامت: "وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه (أبو بكر)، ثم صلى فلما قضى صلاته، قال أبو ذر:‏ فكنت أنا أول من حياه بتحية الإسلام، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله!‏ فقال: وعليك ورحمة الله،‏ ثم قال: من أنت؟‏ قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار،‏ فذهبت آخذ بيده، فقدعني صاحبه وكان أعلم به مني، ثم رفع رأسه، ثم قال: متى كنت ها هنا؟‏ قال: قلت: قد كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك؟‏ قال: قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم،‏ فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، قال: إنها مباركة إنها طعام طعم،‏ فقال أبو بكر: يا رسول الله! ائذن لي في طعامه الليلة،‏ فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، وكان ذلك أول طعام أكلته بها، الحديث.

وفي حديث ابن عباس: حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه - يعني الليل – فاضطجع، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شىء حتى أصبح، ثم احتمل قريبته وزاده إلى المسجد فظل ذلك اليوم ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمر به علي، فقال: ما أنى للرجل أن يعلم منزله فأقامه فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شىء، حتى إذا كان يوم الثالث فعل مثل ذلك فأقامه علي معه، ثم قال له: ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت،‏ ففعل، فأخبره فقال: فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي،‏ ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل معه فسمع من قوله وأسلم مكانه.

جمع الحافظ ابن حجر بينهما:

قال الحافظ ابن حجر: ويمكن التوفيق بينهما بأنه لقيه أولا مع علي ثم لقيه في الطواف أو بالعكس.

الرد على هذا الجمع:

قلت: الجمع الذي ذهب إليه الحافظ ابن حجر مشكل، وقال القرطبي: في التوفيق بين الروايتين تكلف شديد.

ففي الأولى حدث أبو ذر قصته مع النبي صلى الله عليه وأبي بكر في الطواف، ثم استضافة أبي بكر إياه، وفي الثاني قصته مع علي وإقامته معه ثلاث ليال، ثم دلالة علي إياه على النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يتأتى الجمع بين القصتين.

طريق الترجيح:

فإذا امتنع الجمع وجب الترجيح، وعبد الله بن الصامت ابن أخي أبي ذر، فهو من بيته، والغالب أنه سمع منه قصة إسلامه مرارا، وتحققها منه، وابن عباس رضي الله عنهما وإن كان أجل منه وأفقه، فلعله أخطأ في ضبط بعضها، أو لعله أخذ بعضها عن غير أبي ذر، أو لعل الخطأ حصل في حديثه من بعض الرواة في القصة.

ومما يقوي احتمال الخطأ في حديث ابن عباس، أن قصة أبي ذر حصلت – كما يظهر من سياق الحديثين - في مبدأ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء: أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: كان خامس خمسة في الإسلام، وأخرج الذهبي عن أبي ذر، قال: كنت رابع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة، فأتيت نبي الله، فقلت: سلام عليك يا نبي الله، وأسلمت، فرأيت الاستبشار في وجهه، فقال: من أنت؟ قلت: جندب، رجل من غفار، وأخرج الذهبي أيضًا عن جبير بن نفير، قال: كان أبو ذر وعمرو بن عبسة، كل منهما يقول: أنا ربع الإسلام.

قلت: وكان علي رضي الله عنه لما أسلم ابن عشر سنوات، فلما قدم أبو ذر مكة فلعله كان ابن ثلاث عشرة سنة أو نحوها، وليس من المعتاد في عامة المجتمعات أن يستضيف ولد صغير رجلا غريبا، ثم تستمر الضيافة ثلاث ليال.

وأيضًا فعلي بن أبي طالب رضي الله لم يكن له بيت مفرد في تلك السن، فإما كان مقيما في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، أو مع أبيه، فإن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يكون أبو ذر رضي الله عنه قد رآه في الليلة الأولى، وإن كان مع أبيه، فلا بد أن يظهر أمره.

لماذا أخرج الشيخان قصة فيها خطأ؟

فالسؤال: لماذا أخرج الشيخان حديث ابن عباس وفيه احتمال الخطأ الذي سبق بيانه، فالجواب أن مثل هذا الخطأ يضر في أحاديث الأحكام، ولكنه يحتمل في المغازي والسير، فيصحح ما اتفق عليه الحديثان، ويتوقف فيما اختلفا فيه، ومجموع الحديثين يدل على مناقب أبي ذر رضي الله، وهو الذي استدل عليه مسلم بالحديثين، والاختلاف المذكور لا يؤثر في ذلك، وكذلك البخاري لم يستدل بحديث ابن عباس إلا على فضل أبي ذر وقصة زمزم.

وقد بين الإمام ابن تيمية هذا المعنى في مقدمة أصول التفسير حيث يقول: "والمقصود أن الحديث الطويل إذا روي مثلا من وجهين مختلفين، من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطا، كما امتنع أن يكون كذبا؛ فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة، وإنما يكون في بعضها، فإذا روى هذا قصة طويلة متنوعة ورواها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط في جميعها، كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة".

"ولهذا إنما يقع في مثل ذلك غلط في بعض ما جرى في القصة، مثل حديث اشتراء النبي صلى الله عليه وسلم البعير من جابر؛ فإن من تأمل طرقه علم قطعا أن الحديث صحيح، وإن كانوا قد اختلفوا في مقدار الثمن. وقد بين ذلك البخاري في صحيحه، فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ لأن غالبه من هذا النحو؛ ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، والأمة لا تجتمع على خطأ، فلو كان الحديث كذبا في نفس الأمر، والأمة مصدقة له قابلة له، لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب، وهذا إجماع على الخطأ وذلك ممتنع، وإن كنا نحن بدون الإجماع نجوز الخطأ أو الكذب على الخبر، فهو كتجويزنا قبل أن نعلم الإجماع على العلم الذي ثبت بظاهر أو قياس ظني أن يكون الحق في الباطن، بخلاف ما اعتقدناه، فإذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطنا وظاهرا".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين