نبي الرحمة (46)

إلى الرفيق الأعلى: (2)

التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض:

ووقع الخلاف في أمر الخلافة قبل أن يقوموا بتجهيزه صلى الله عليه وآله وسلم، فجرت مناقشات ومجادلات وحوار وردود بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، وأخيراً اتفقوا على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ومضى في ذلك بقية يوم الإثنين حتى دخل الليل، وشغل الناس عن جهاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كان آخر الليل- ليلة الثلاثاء- مع الصبح، وبقي جسده المبارك على فراشه، مغشى بثوب حبرة، قد أغلق دونه الباب أهله. ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، وكان القائمون بالغسل العباس وعلياً، والفضل وقثم ابني العباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأسامة بن زيد، وأوسا بن خولي. فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلي يغسله، وأوس أسنده إلى صدره.

وقد غُسّل ثلاث غسلات بماء وسدر، وغسل من بئر يقال لها: -الغرس- لسعد بن خيئمة بقباء، وكان يشرب منها. ثم كفنوه في ثلاثة أثواب يمانية بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة. أدرجوه فيها إدراجاً.

واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:(ما قبض نبيّ إلا دفن حيث يقبض)، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحداً. ودخل الناس الحجرة أرسالاً عشرة فعشرة، يصلون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان. أو الصبيان ثم النساء.

ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، حتى دخلت ليلة الأربعاء، قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل من ليلة الأربعاء.

البيت النبوي:

1-كان البيت النبوي في مكة قبل الهجرة يتألف منه عليه وآله الصلاة والسلام، ومن زوجته خديجة بنت خويلد، تزوجها وعمره خمس وعشرون سنة، وهي في الأربعين، وهي أول من تزوجها من النساء، ولم يتزوج عليها غيرها، وكان له منها أبناء وبنات، أما الأبناء، فلم يعش منهم أحد، وأما البنات فهن: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، فأما زينب فتزوجها قبل الهجرة ابن خالتها أبو العاص بن الربيع، وأما رقية وأم كلثوم فقد تزوجهما عثمان بن عفان الواحدة بعد الآخرى، وأما فاطمة فتزوجها علي بن أبي طالب، ومنها كان الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم. ومعلوم أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان ممتازاً عن أمته بحل التزوج بأكثر من أربع زوجات لأغراض كثيرة، فكان عدد من عقد عليهن ثلاث عشرة امرأة، منهن تسع مات عنهن، واثنتان توفيتا في حياته، إحداهما خديجة، والآخرى أم المساكين زينب بنت خزيمة، واثنتان لم يدخل بهما.

وها هي أسماء زوجاته وشيء عنهن.

٢- سَوْدَةُ بنت زَمَعَةَ، تزوجها صلى الله عليه وآله وسلم في شوال ١٠من النبوة، بعد وفاة خديجة بأيام، وكانت قبله عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو، فمات عنها.

٣-عائشة بنت أبي بكر الصديق، تزوجها في شوال سنة ١١من النبوة، بعد زواجه بسودة بسنة، وقبل الهجرة بسنتين وخمسة أشهر، تزوجها وهي بنت ست سنين، وبنى بها في شوال بعد الهجرة بسبعة أشهر في المدينة، وهي بنت تسع سنين، وكانت بكراً ولم يتزوج بكراً غيرها، وكانت أحب الخلق إليه، وأفقه وأعلم نساء الأمة.

٤-حفصة بنت عمر بن الخطاب، تأيّمت من زوجها خُنيس بن حُذافة السهمي، فتزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ٣هـ.

٥-زينب بنت خُزَيْمَة، من بني هلال بن عامر بن صَعْصَعَةَ وكانت تسمى أم المساكين، لرحمتها إياهم ورقتها عليهم، كانت تحت عبد الله بن جحش، فاستشهد في أحد، فتزوجها صلى الله عليه وآله وسلم سنة ٤هـ. ماتت بعد الزواج بشهرين أو ثلاثة أشهر.

٦-أم سلمة هند بنت أبي أمية، كانت تحت أبي سلمة، فمات عنها في جمادي الآخرى ٤هـ، فتزوجها صلى الله عليه وآله وسلم في شوال من نفس السنة.

٧- زَيْنَب بنت جحش بن رباب من بني أسد بن خُزَيْمَة، وهي بنت عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت تحت زيد بن حارثة- الذي كان يعتبر ابناً للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم- فطلقها زيد، فأنزل الله تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم:{فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها} [الأحزاب:٣٧]، وفيها نزلت من سورة الأحزاب آيات فصّلت قضية التبني، فتزوجها صلى الله عليه وآله وسلم في ذي القعدة ٥هـ.

٨- جُوَيريَةُ بنت الحارث سيد بني المصطلق من خزاعة، كانت في سبي بني المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فقضى صلى الله عليه وآله وسلم كتابتها، وتزوجها في شعبان ٦هـ.

٩- أُمُّ حَبِيْبَةَ رَمْلةُ بنتُ أبي سفيان، كانت تحت عبيد الله بن جحش، هاجرت معه إلى الحبشة، فارتد عبيد الله وتنصر، وتوفي هناك، وثبتت أم حبيبة على دينها وهجرتها، فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن أمية الضمري بكتابه إلى النجاشي في المحرم ٧هـ. خطب عليه أم حبيبة فزوجها إياه وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة.

١٠- صَفِيَّةُ بنت حُيَيِّ بن أخطب، كانت من سبي خيبر، فاصطفاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه، فأعتقها وتزوجها بعد فتح خيبر ٧هـ.

١١-ميمونة بنت الحارث، أخت أم الفضل لبابة بنت الحارث، تزوجها في ذي القعدة ٧هـ، في عمرة القضاء.

فهؤلاء إحدى عشرة سيدة تزوج بهن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبنى بهن وتوفيت منهن اثنتان- خديجة وزينب أم المساكين- في حياته، وتوفي هو عن التسع البواقي.

وأما الإثنتان اللتان لم يبن بهما، فواحدة من بني كلاب، وأخرى من كندة، وهي المعروفة بالجونية.

وأما السراري فالمعروف أنه تسرى باثنتين إحداهما: مارية القبطية، أهداها له المقوقس، فأولدها ابنه إبراهيم، الذي توفي صغيراً بالمدينة في حياته صلى الله عليه وآله وسلم، في ٢٨ شوال ١٠هـ. والسرية الثانية هي: ريحانة بنت زيد النضرية أو القرظية، كانت من سبايا قريظة، فاصطفاها لنفسه، وقيل: بل هي من أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم، أعتقها فتزوجها. وزاد أبو عبيدة اثنتين أخريين، جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش.

إن زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا العدد من النساء بعد أن قضى ما يقارب ثلاثين عاماً من ريعان شبابه مقتصراً على زوجة واحدة - خديجة ثم سودة- كان لأغراض أجل وأعظم من الغرض الذي يحققه الزواج عامة. فاتجاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى مصاهرة أبي بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة, وكذلك تزويجه ابنته فاطمة بعلي بن أبي طالب، وتزويجه ابنته رقية ثم أم كلثوم بعثمان بن عفان- يشير إلى توثيق الصلات بالرجال الأربعة، الذين عرف بلاءهم وفداءهم للإسلام. وكان من تقاليد العرب احترام المصاهرة، وكانوا يرون مناوأة ومحاربة الأصهار سبة وعاراً، فأراد صلى الله عليه وآله وسلم بزواج عدة من أمهات المؤمنين أن يكسر عداء وبغضاء القبائل للإسلام، كانت أم سلمة من بني مخزوم- حي أبي جهل وخالد بن الوليد- فلما تزوجها صلى الله عليه وآله وسلم لم يقف خالد من المسلمين موقفه الشديد بأحد، بل أسلم بعد مدة طائعاً راغباً، وكذلك أبو سفيان لم يواجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأي محاربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة، وكذلك لا نرى من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي استفزاز وعداء بعد زواجه بجويرية وصفية؛ بل كانت جويرية أعظم النساء بركة على قومها، فقد أطلق الصحابة أسر مائة بيت من قومها حين تزوجها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وكان صلى الله عليه وآله وسلم مأموراً بتزكية وتثقيف قوم لايعرفون شيئاً من الحضارة و المدنية. والمبادئ التي كانت أسساً لبناء المجتمع الإسلامي، لم تكن تسمح للرجال أن يختلطوا بالنساء، فلا يمكن تثقيفهنّ مباشرة، والحاجة الشديدة لتثقيفهنّ لم تكن أقل من الرجال. فاختار صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الغرض نساء مختلفات الأعمار والمواهب، ليزكيهنّ ويربيهنّ، ويعلمهنّ الشرائع والأحكام، ويثقفهنّ حتى يعدهنّ لتربية النساء، فيكفين مؤنة تبليغ النساء. وقد كان لأمهات المؤمنين فضل في نقل أحواله- صلى الله عليه وآله وسلم- المنزلية للناس، خصوصاً من طالت حياته منهن كعائشة، فإنها روت كثيراً من أفعاله وأقواله.

وهناك نكاح كان لنقض قاعدة التبني. وكان للمتبنى عند العرب في الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للابن الحقيقي. وتلك القاعدة تعارض الأسس والمبادئ التي قررها الإسلام في النكاح والطلاق والميراث، وتجلب كثيراً من المفاسد والفواحش التي جاء الإسلام ليمحوها. ولهدم تلك القاعدة أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينكح ابنة عمته زينب، وكانت تحت زيد، ولم يكن بينهما توافق، حتى هم زيد بطلاقها، وذلك في ساعة تألب الأحزاب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يخاف دعاية المنافقين والمشركين واليهود، وما يثيرونه من الوساوس والخرافات ضده، وما يكون له من الأثر السيئ في نفوس ضعفاء المسلمين، فأحب ألايطلق زيد؛ حتى لا يقع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الامتحان.

وهذا التردد كان لا يطابق العزيمة التي بُعث بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعاتبه الله وقال:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} [الأحزاب:٣٧] وكان قدر الله أن زيداً طلقها، فزوج الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بها بعد أن انقضت عدتها. وقد أوجب عليه هذا النكاح، ولذلك تولى الله هذا النكاح بنفسه يقول:{فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} [الأحزاب:٣٧]، وهدم قاعدة التبني فعلاً وقولاً:{ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}[الأحزاب: ٥] {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:٤٠] وقد أثار المنافقون وساوس ودعايات كاذبة حول هذا النكاح، أثّر بعضها في ضعفاء المسلمين، لا سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن يعرف المسلمون حل الزواج بأكثر من أربع نسوة، وأن زيداً كان يعتبر ابناً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والزواج بزوجة الابن كان من أغلظ الفواحش، وقد أنزل الله في سورة الأحزاب حول الموضوعين ما شفى وكفى، وعلم الصحابة أن التبني ليس له أثر عند الإسلام، وأن الله تعالى وسع لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الزواج ما لم يوسع لغيره لأغراضه النبيلة. وكانت عشرته صلى الله عليه وآله وسلم مع أمهات المؤمنين في غاية الشرف والنبل والسمو والحسن، كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيام بحقوق الزواج، مع أنه كان في شظف من العيش لا يطيقه أحد. قال أنس: ما أعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط. وقالت عائشة: إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار. فقال لها عروة: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان؛ التمر والماء. ومع هذا الشظف والضيق لم يصدر منهن ما يوجب العتاب إلا مرة واحدة-ليكون سبباً لتشريع الأحكام- فأنزل الله آية التخيير{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:٢٨-٢٩] وكان من شرفهنّ ونبلهنّ أنهنّ آثرن الله ورسوله، ولم تمل واحدة منهنّ إلى اختيار الدنيا. وكذلك لم يقع منهنّ ما يقع بين الضرائر مع كثرتهنّ إلا شيء يسير من بعضهن حسب اقتضاء البشرية، ثم عاتب الله عليه فلم يعدن له مرة أخرى، وهو الذي ذكره الله في سورة التحريم بقوله:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى تمام الآية الخامسة.

وأخيراً أرى أنه لا حاجة إلى البحث في موضوع مبدأ تعدد الزوجات، فمن نظر في حياة سكان أوروبا الذين يصدر منهم النكير الشديد على هذا المبدأ، ونظر إلى ما يقاسون من الشقاوة والمرارة، وما يأتون من الفضائح والجرائم الشنيعة، وما يواجهون من البلايا والقلاقل لانحرافهم عن هذا المبدأ كفى له ذلك عن البحث والاستدلال، فحياتهم أصدق شاهد على عدالة هذا المبدأ، وإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.

يتبع.......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين