كمال عقله واتّزان شخصيّته وشجاعته وعظيم هيبته صلى الله عليه وسلم

الحديث عن شخصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم صعب مهيب، عميق دقيق، إنّه حديث عن شخصيّة تلتقي فيها الأرض بالسماء، بل قُل وأنت تعي ما تقول: تمتزج فيها الأرض بالسماء، والعقل بالوحي، والفطرة الإنسانيّة المشرقة بالوحي الإلهيّ المنزّه المنزّل، فلا تدري العظمة من أيّ الطرفين تبزغ، وإلى أيّهما تنتمي.!؟ وهي إن انتمت إلى عظمة السماء وجدت الأرض موفورة الزرع والخير، والنماء والعطاء، وإن رأت الأرض زاهية الجمال بحلّة الجلال رأتها معجزة الخلق والتكوين، ممدودة بعطاء السماء..

إنّها في الحقّ معجزة الأمر الإلهيّ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110]..

ومثلها كمثل البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان.؟ إنّها النبوّة والاصطفاء.. التي تنفخ روح الهدى فكأنّها تنقلب بها طبائع الأشياء، وهل تستطيع وكأنّ الأرض تطاول رفعة السماء..

وإنّما يختبر عقل الإنسان في المواقف الحرجة، وفي الأزمات الطارئة، وفي المصائب الكبيرة، التي تنزل بالإنسان، وتحتاج إلى قوّة النفس، وثبات القلب، وحسن التصرّف..

ولقد كان رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حصيفَ العقل، واسعَ الفكر، بعيدَ النظر، ذكيَّ الفؤاد، يُعالجُ ما يعترضُه من مشكلات بحكمة باهرة، ودقّة ماهرة، وبديهة حاضرة، وفطنة لا حدّ لها، ممّا يجعل من يتعامل معه يذعن لحكمه، وينقاد بكلّ ارتياح لرأيه.

وعندما تطّرد قوّة عقل الإنسان في كلّ موقف، ولا يوصف أنّه يحسن إدارة الأزمات، والثبات في الشدائد والملمّات فحسب، بل يقف أمام التحدّيات الكبرى كالطود الأشمّ، ويصارع عقول أمّة وأعرافها وعاداتها فيصرعها، بل يحوّل اتّجاهها ومجرى حياتها ولا تكون أمام عقله شيئاً مذكوراً، فذاك دليل على أنّه ممدود بقوّة الله التي لا تغلب، وعزّة الله التي لا ترام.. وهذا ركن ركين، ومعنى أصيل من حقيقة النبوّة، التي لا تطالها أعناق البشر مهما اجتهدوا، ومهما أوتوا من مواهب وقدرات وقوّة..

وإنّ كمال عقله صلى الله عليه وسلم، وأصالة تفكيره، وبعد نظره، كان يتجلّى في تصرّفاته ومواقفه قبل النبوّة وبعدها، وذلك كما في تحكيمه قبل النبوّة في وضع الحجر الأسود، ورضا المشركين بحكمه، وانطفاء الفتنة التي كادت تشبّ، فتأكل الأخضر واليابس، ومواقفه وأساليبه في الدعوة إلى الله تعالى، ومواقفه في إدارة الدولة الناشئة في المدينة، وسياسته الحكيمة البعيدة النظر في معاملة المنافقين، التي تجمع بين مقتضى الشريعة، وقوّة الحقّ، ومقتضى الدعوة والخلق الكريم، ومقتضى حفظ هيبة الدولة والقيادة عن عبث العابثين، كما تتجلّى في اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب والمقام المناسب، وفي إعداده للجيوش، ومباغتة الأعداء قبل أن يبغتوه، وموقفه في القضاء على الفتنة، التي كادت تقع بين الأوس والخزرج، بتحريش من اليهود، وبين المهاجرين والأنصار أثناء غزوة بني المصطلق، ومواهبه الفذّة في عقد المعاهدات والصلح، وفي ترضية الأنصارِ بعد قسمة غنائم حنين، وفي معاملة الأصدقاء والأعداء، حتّى كانت سبباً لدخول كثير منهم في الإسلام.. وغير ذلك أكثر من أن يحصى..

وممّا يدلّ على كمال عقله صلى الله عليه وسلم، ورجحانه على سائر العقول: ما هداه الله إليه من حلّ حكيم عندما اختلفت قريش في بناء الكعبة، فيمن يذهب بشرف وضع الحجر الأسود مكانه، حتّى كادت الحرب أن تقع بينهم، وقرّب بنو عبد الدار جفنة مملوءةً دماً، ثمّ تعاقدوا هم وبنو عديّ بن كعب بن لؤيّ على الموت، وأدخلوا أيديهم في تلك الجفنة، واستمرّوا على ذلك أربع ليالٍ أو خمساً، ثمّ ألهم الله تعالى أحد عقلائهم، وهو أبو أميّة بن المغيرة المخزوميّ، والد السيّدة أم سلمة رضي الله عنها، وكان يومها أسنّ رجل في قريش، فقال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أوّل من يدخل من باب هذا المسجد، فرضوا وقبلوا، وأشخصوا أبصارهم إلى باب المسجد، فكان محمدّ بن عبد الله أوّل داخل، فعندما رأوه قالوا: " هذا الأمين! رضينا به.. رضينا به.. "، لقد أرسلته يد العناية الإلهيّة فكان قدر الحقّ المبين، لينقذ قريشاً من هذا الشرّ المستطير..

فلمّا أخبروه بالأمر لم يلبث أن بسط رداءه، ثمّ أخذ الحجر فوضعه عليه، ثمّ قال: لتأخذ كلّ قبيلة بطرف، فرفعوه جميعاً، حتّى بلغوا مستَوى وضعه، فأخذه صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين، ووضعه مكانه، وبهذا الحلّ الحكيم وقى الله قريشاً شرّ الحرب والاقتتال، وازدادت قريش تقديراً للنبيّ صلى الله عليه وسلم واحتراماً.. إنّه صاحبُ العقل الحصيف الكامل، الذي هيّأه الله تبارك وتعالى ليقود البشريّة إلى طريق الحقّ والعدل والسلام، بعيداً عن الإفساد في الأرض وسفك الدماء. وإنّ هذه الحادثة لتعدّ إرهاصاً وبشرى بما قدّره الله للإنسانيّة من الهداية والرشاد ببعثته ورسالته..

ومن كمال عقله صلى الله عليه وسلم ما فطره الله عليه من الغيرة على الحقّ ونصرته، والوقوف مع المظلُوم: وقد أشاد صلى الله عليه وسلم بما حضر قبل الإسلام من حلف الفضول، ومشاركته فيه، فقد جاء في الحديث عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (شَهِدْتُ حِلْفَ المُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلامٌ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ)، قَالَ الزُّهْرِيُّ رحمه الله: " قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَمْ يُصِبْ الإِسْلامُ حِلْفاً إِلاّ زَادَهُ شِدَّةً، وَلا حِلْفَ فِي الإِسْلامِ)، وَقَدْ أَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ " [رواه أحمد في المسند برقم/1567/].

وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: (أَوْفُوا بِحِلْفِ الجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ لا يَزِيدُهُ ـ يَعْنِي: الإِسْلامَ ـ إِلاّ شِدَّةً، وَلا تُحْدِثُوا حِلْفاً فِي الإِسْلامِ) [رواه الترمذيّ في كتاب السير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم /1511/، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].

وقد كان حلف الفضول بعد حرب الفجار بأربعة أشهر وكان أكرم حلف وأفضله في العرب في الجاهليّة، وسببه أنّ رجلاً من قبيلة " زُبيدٍ باليمن قدم مكّة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل السهميّ، وأبى أن يعطيه حقّه، فاستعدى عليه الزبيديّ الأحلاف: عبد الدار، ومخزوماً، وجمحاً، وسهماً، وعديّ بن كلب، فأبوا أن يعينوه على العاص بن وائل، وانتهروه لما للعاص من وجاهة في قومه، فلمّا رأى الزبيديّ الشرّ صعد على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فاستصرخهم لردّ ظلامته قائلاً:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته=ببطن مكّة نائي الدار والنفر

إنّ الحرام لمن تمّت كرامته=ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

فقام الزبير بن عبد المطّلب فقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تيم بن مرّة في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاماً، وتحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكوننّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم، حتّى يردّ إليه حقّه ما بلّ بحر صوفة، وما بقي جبلا ثبير وحراء مكانهما [الطبقات الكبرى لابن سعد 1/128/].

فسمّت قريش هذا الحلف: " حلف الفضول "، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثمّ مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيديّ، فدفعوها إليه، وقيل: إنّما سمّي " حلف الفضول " لأنّه أشبه حلفاً تحالفته جرهم على هذا: من نصر المظلوم، وردع الظالم، وكان دُعي إليه ثلاثة من أشرافهم، اسم كلّ واحد منهم فضل..

وفي هذا الحلف يقول الزبير بن عبد المطّلب:

إنّ الفضول تعاقدوا وتحالفوا=ألاّ يقيم ببطن مكّة ظالم

أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا=فالجار والمعترّ فيها سالم

وقد حضر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحلف، الذي رفعوا به منار الحقّ، وهدموا صرح الظلم، وهو يعتبر من مفاخر العرب، وعرفانهم لحقوق الإنسان، وقد روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (لقد شهدت بدار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحبّ أنّ لي به حمر النعم، ولو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت) [السيرة النبويّة لأبي شهبة 1/214/].

ومن النماذج الدالّة على كمال عقله صلى الله عليه وسلم: هذا الحوار العقليّ الراقي مع من جاءه سائلاً، وقد امتلأ قلبه بالشكّ بزوجه، وكأنّي به كان ينتظر كلمة أو إشارة، ليثبّت الشكّ فيكون يقيناً، ومن ثمّ يسارع إلى الطلاق، وفراق زوجته: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وُلِدَ لِي غُلامٌ أَسْوَدُ.؟! فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنَّى ذَلِكَ؟ قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ) [رواه البخاريّ في كتاب الطلاق برقم /4893/].

وأمّا اتّزانُ شخصيّته صلى الله عليه وسلم؛ فقد تمثّلت في حياته كلّ جوانب الحياة البشريّة، بأحوالها المختلفة، وتقلّباتها المتباينة، بأفراحها وأحزانها، ويسرها وعسرها، وضيقها وفرجها، وقد واجه النبيّ صلى الله عليه وسلم جميع هذه الأحوال بإرادة صُلبة، وشخصيّة متّزنة راسخة، فاستقبل أقدار الله بالصبر والثبات، والتوكّل والرضا، فانحنت أمام إرادته العواصف الهوج، وتفتّتت المؤامرات والمكايد، وذابت أمام حكمته المشكلات، وتحوّلت بعزيمته الصادقة، وإرادةِ ربّه قبل كلّ شيء معاولُ الهدم إلى أدوَات بناء، وعواصفُ التدمير إلى قوّة بناء وتغيير، وصدق الله العظيم: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون}[يوسف:21].

ومن النماذج الدالّة على اتّزان شخصيّته صلى الله عليه وسلم ما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالاً، فَقَالَ لَهُمْ: اشْتَرُوا لَهُ سِنّاً فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَقَالُوا: إِنَّا لا نَجِدُ إِلاّ سِنّاً هُوَ خَيْرٌ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: فَاشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَوْ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) [رواه البخاريّ في كتاب الوكالة برقم /2140/ ومسلم في كتاب المساقاة برقم/3003/].

فانظر إلى قوّة اتّزان شخصيّته في موقف يساء فيه إلى مقامه الشريف، فيلتمس لمن أساء العذر، ولا يكتفي صلى الله عليه وسلم بذلك، بل يقرّر قاعدة قانونيّة أخلاقيّة، ونفسيّة واجتماعيّة عامّة، تعلي من شأن صاحب الحقّ، وتحترم موقفه، وتؤيّده في جرأته في المطالبة: (إِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالاً)، ثمّ لم يكتفِ صلوات ربّي وسلامُه عليه بذلك، بلْ أمر أصحابه أن يعطوا صاحب الحقّ زيادة عن حقّه: (فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَوْ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً)، فهل رأيت أروع وأرفع من هذه الصورة من صور التوازن النفسيّ وسعة الصدر.! وهل يطيق مثل ذلك أحد غير النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم.؟!

ومن النماذج الدالّة على اتّزان شخصيّته صلى الله عليه وسلم: موقفه صلى الله عليه وسلم في قصّة الإفك:

فقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم في قرارة نفسه طهارة زوجه الحَصَان، أمّ المؤمنين، الصدّيقة بنت الصدّيق رضي الله عنها، ممّا رُميت به من فرية شنيعة، وهو يعلم فضلها وتقواها، كما يعلم أنّ من يتولّى كبر هذا الإفك والإثم المنافقون ورأسهم، كما يعلم مقاصدهم ممّا يفترون، وكلّنا يعلم منزلة أمّ المؤمنين، السيّدة عائشة في نفسه.. ومع ذلك كلّه فقد صبر صلى الله عليه وسلم وتريّث، ولم يندفع بمشاعره وعاطفته، ولم يتّخذ أيّ موقف بناءً على ما لديه من علم ومعرفة، وانتظر حكم الله تعالى، أدباً مع الحقّ جلّ وعلا، والتزاماً بما يمليه أدب العبوديّة، ومقام النبوّة والرسالة. [اقرأ في صحيح البخاريّ وصحيح مسلم قصّة الإفك كما ترويها السيّدة عائشة رضي الله عنها، وتأمّل ما فيها من الدروس والعبر، وانظر كيف وجدت السيّدة عائشة في نفسها من مَوقف النبيّ صلى الله عليه وسلم المتريّث، وهو في الحقّ كما ترى باب فريد من أبواب عظمة شخصيّته، ودلائل نبوّته].

ومن النماذج الدالّة على اتّزان شخصيّته صلى الله عليه وسلم وسموّ نفسه أنّه لم يكن يدافع عن نفسه اتّهامات المشركين الظالمة، وإنّما يعرض الحقّ، ويتلو القرآن، ويدعو إلى الله تعالى، ويسلّم أمره إلى الله، فيدافع الله عنه، ويكفيه شرّ أعدائه وكيدهم، وبهذا التوازن النفسيّ السامي كانت تهفو فطرة من أراد الله له الهداية إلى نور الحقّ غير مبالية بكيد الباطل وافتراءاته.. وللحقّ نور نفّاذ، لا تضرّه حجب الباطل وترّهاته..

أخرج أبو يعلى عن حرب بن سريج قال: حدّثني رجل من بلعدويّة قال: حدّثني جدّي قال: انطلقت إلى المدينة فنزلت عند الوادي، فإذا رجلان بينهما عنزة واحدة، وإذا المشتري يقول للبائع: أحسن مبايعتي قال: فقلت في نفسي هذا الهاشميّ، الذي قد أضلّ الناس، أهو هو؟ قال: فنظرت فإذا رجل حسن الجسم، عظيم الجبهة، دقيق الأنف دقيق الحاجبين، وإذا من ثغرة نحره إلى سرّته مثل الخيط الأسود شعر أسود، وإذا هو بين طمرين. قال: فدنا منّا فقال: السلام عليكم، فرددنا عليه، فلم ألبث أن دعا المشتري فقال: " يا رسول الله قل له: يحسن مبايعتي، فمدّ يده وقال: أموالكم تملكون، إنّي أرجو أن ألقى الله عزّ وجلّ يوم القيامة لا يطلبني أحد منكم بشيء ظلمته في مال ولا في دم وعرض إلاّ بحقّه، رحم الله أمرأً سهل البيع، سهل الشراء، سهل الأخذ، سهل العطاء، سهل القضاء، سهل التقاضي، ثمّ مضى.

فقلت: والله لأقصّنّ هذا، فإنّه حسن القول، فتبعته، فقلت: يا محمّد! فالتفت إليّ بجميعه فقال: ما تشاء؟

قلت: أنت الذي أضللت الناس، وأهلكتهم، وصددتهم عمّا كان يعبد آباؤهم؟!

قال: ذاك الله. قال: ما تدعو إليه؟ قال: أدعو عباد الله إلى الله، قال: فقلت: ما تقول؟ قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّي محمّد رسول الله، وتؤمن بما أنزل عليّ، وتكفر باللاّت والعزّى، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة. قال: قلت: وما الزكاة؟ قال: يردّ غنيّنا على فقيرنا. قال: قلت: نعم الشيء تدعو إليه، قال: فلقد كان وما في الأرض أحد يتنفّس أبغض إليّ منه، فما برح حتّى كان أحبّ إليّ من ولدي ووالدي، ومن الناس أجمعين.

قال: فقلت: قد عرفت، قال: قد عرفت؟ قلت: نعم، قال: تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّي محمّد رسول الله، وتؤمن بما أنزل عليّ؟ قال: قلت: نعم، يا رسول الله، إنّي أرد ماءً عليه كثير من الناس فأدعوهم إلى ما دعوتني إليه؟ فإنّي أرجو أن يتّبعوك، قال: نعم، فادعهم، فأسلم أهل ذلك الماء رجالهم ونساؤهم، فمسح رسول الله رأسه " [" الرسول صلى الله عليه وسلم " للشيخ سعيد حوّى 1/122/].

وأمّا شجاعته صلى الله عليه وسلم، وعظيم هيبته صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب القلب الكبير، الذي وسع قلبه الكبير والصغير، والمرأة والرجل، والصديق والعدوّ، والفظّ الغليظ، والجاهل الجافي، وكان عظيم المهابة في قلب كلّ من رآه، قد تَوّجَهُ الله تعالى تاج العزّة والكرامة، وكساه حُلّة البهاء والفخامة، كما جاء في وصفه صلى الله عليه وسلم على لسان هند بن أبي هالة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخّماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر.

ووصفه سيّدنا عليّ رضي الله عنه بقوله: " من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه " [رواه الترمذيّ في كتاب المناقب برقم /3571/].

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم لا يستطيعون إمعان النظر إليه لقوّة مهابته في القلوب، وعظيم وقاره في النفوس، ومن ثمّ فلم يدقّق في وصفه إلاّ صغارهم، أو من كان تحت تربيته قبل النبوّة، كهند ابن أبي هالة، وسيّدنا عليّ رضي الله عنه.

وقال عروة بن مسعود الثقفيّ لأصحابه من المشركين، بعدما رجع من مفاوضة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الحديبية: ".. وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له " [السيرة النبويّة للشيخ الدكتور محمّد بن محمّد أبو شهبة 2/330].

ومن المواقف الدالّة على شجاعة قلبه صلى الله عليه وسلم ما جاء في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ، كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً فَانْطَلَقُوا قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ، وَهُوَ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَنْ تُرَاعُوا، يَرُدُّهُمْ، ثُمَّ قَالَ لِلْفَرَسِ: وَجَدْنَاهُ بَحْراً، أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ)، وكَانَ فَرَساً لأَبِي طَلْحَةَ يُبَطَّأُ، فَمَا سُبِقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ " [رواه ابن ماجة في كتاب الجهاد برقم /2762/].

وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: (هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ) [رواه ابن ماجة في كتاب الأطعمة برقم /3303/].

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَسَّانَ الْعَنْبَريّ قَالَ: حَدَّثَتْنِي جَدَّتَايَ صَفِيَّةُ وَدُحَيْبَةُ ابْنَتَا عُلَيْبَةَ، قَالَ مُوسَى بِنْتِ حَرْمَلَةَ: وَكَانَتَا رَبِيبَتَيْ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنها، وَكَانَتْ جَدَّةَ أَبِيهِمَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُمَا: " أَنَّهَا رَأَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم المُخْتَشِعَ فِي الجِلْسَةِ أُرْعِدْتُ مِنْ الْفَرَقِ. [رواه أبو داود في كتاب الأدب برقم /4207/].

وفي رواية زيادة: فقال رجل: يا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُرْعِدَت المسكينة، قَالَت قَيْلَةُ: فقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولم ينظر إليّ، وأنا عند ظهره: (يا مسكينةُ عليك السكينة)، فلمّا قالَها أذهب الله ما كان دخل قلبي من الرعب ".

إنّ كلّ حدث من أحداث السيرة العطرة، أو موقف من مواقفها يمكن أن ينظر إليه من عدّة زوايا أو وجوه، وفي كلّ ذلك تجده فذّاً متألّقاً، يحمل الدلائل القاطعة على نبوّة مُحَمّد صلى الله عليه وسلم، وإمداد الله له بأقدس عناية..

وقد أعطى الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم هذه المهابة تأييداً للحقّ الذي بعث به، وخصّيصة من خصائص النبوّة الخاتمة، وهي صفة من جلال القرآن العظيم، الذي كان يتنزّل عليه صباح مساء، وهو صلى الله عليه وسلم خير من تلاه ووعظ به وبلّغه.. وقد كان شغله وديدنه، واختلط بلحمه ودمه، وتلك الهيبة من جلال الله تعالى ومحبّته، الذي اصطفاه على العالمين، وجعله خير المرسلين، وهي من نوع النصر بالرعب الذي خُصّ به النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح [الذي رواه البخاريّ في كتاب التيمّم برقم /323/ ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم /810/ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي المَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)].

وقد كانت هيبته صلى الله عليه وسلم قوّة للحقّ وسنداً، في وجه زيف الباطل وطغيانه، وبغيه وعدوانه، فقد ثبت في السيرة الشريفة أنّ بعض المشركين في مناسبات مختلفة أرادوا البطش بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فوقفت مهابته صلى الله عليه وسلم سدّاً منيعاً في وجههم، وباءوا بالخزي والصغار، والذلّ والعار، واعترف بعضهم بما رأى، وما ألقي في قلبه من الخوف.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ المَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي الحِجْرِ، فَتَعَاقَدُوا بِاللاّتِ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الأُخْرَى، وَنَائِلَةَ وَإِسَافٍ، لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّداً لَقَدْ قُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ، فَأَقْبَلَتْ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا تَبْكِي، حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: هَؤُلاءِ المَلأُ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ تَعَاقَدُوا عَلَيْكَ، لَوْ قَدْ رَأَوْكَ لَقَدْ قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاّ قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دَمِكَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ أَرِينِي وَضُوءاً، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ المَسْجِدَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَا هُوَ ذَا، وَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ، وَسَقَطَتْ أَذْقَانُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، وَعَقِرُوا فِي مَجَالِسِهِمْ، فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ بَصَراً، وَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ التُّرَابِ، فَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ، ثُمَّ حَصَبَهُمْ بِهَا، فَمَا أَصَابَ رَجُلاً مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الحَصَى حَصَاةٌ إِلاّ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِراً) [رواه أحمد في المسند برقم /3626/].

فهل عرف الناس أشجعَ منه صلى الله عليه وسلم قلباً.؟! إنّه يُخبَرُ أنّ القومَ يبيّتون له الغدر، ويعزمون على قتله، فيقصدهم في مجتمعهم، ويقف أمامهم بمفردِه، ليس له ظهير سوى ربّه، وكفى بالله وليّاً، وكفى بالله نصيراً، فيسقط في أيديهم، ويحصبهم بقوّة الله جلّ وعلا بقبضة من تراب، فتكون إرهاصاً لقتل عتاتهم في غزوة بدر..

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ للزبير بن العوّام رضي الله عنه: مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشاً أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ قَالَ: " حَضَرْتُهُمْ وَقَدْ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْماً فِي الحِجْرِ فَذَكَرُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ، سَفَّهَ أَحْلامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوْ كَمَا قَالُوا، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفاً بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ مَا يَقُولُ، قَالَ: فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَقَالَ: تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ، فَأَخَذَتْ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ، حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاّ كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنْ الْقَوْلِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، انْصَرِفْ رَاشِداً، فَوَاللهِ مَا كُنْتَ جَهُولاً، قَالَ: فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي الحِجْرِ، وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ، حَتَّى إِذَا بَادَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ طَلَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟! لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ، قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ، قَالَ: وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه دُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي: " أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللهُ؟! ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لأَشَدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشاً بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ " [رواه أحمد في المسند برقم /6739/].

ففي سبيل نصرة الحقّ، ونشر نور الله في الأرض يأتي التأييد الإلهيّ في كلّ موقف إعزازاً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وخزياً لأعدائه، وتأتي الهيبة النبويّة سنداً للحقّ في وجه انتفاش الباطل وطغيانه، وبغيه وعدوانه: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ...} [التوبة:40].

وقال أبو جهل مرّة لأصحابه من المشركين: يا معشر قريش، إنّ محمّداً قد أبى إلاّ ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وإنّي أعاهد الله لأجلسنّ له غداً بحجر، فإذا سجد في صلاته فدخت به رأسه، فليصنع بنو عبد مناف ما بدا لهم.

فلمّا أصبح أبو جهل أخذ حجراً، ثمّ جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله يصلّي بين الركنين: الأسود واليمانيّ، وغدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، فلمّا سجد رسول الله احتمل أبو جهل الحجر، ثمّ أقبل نحوه متلصّصاً، حتّى إذا دنا منه رجع منبهتاً منتقعاً لونه، مرعوباً قد يبست يداه على حجره من الخوف، حتّى قذف الحجر من يده، فقام إليه رجال من قريش، فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم.؟! قال: قمت إليه لأفعل ما عزمت عليه البارحة، فلمّا دنوتُ منه عرض لي فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قَصرته، ولا أنيابه لِفحل قطّ، فهمّ أن يأكلني.! "..

ومرّة أخرى قال أبو جهل: إنّ لله عليّ إن رأيت محمّداً ساجداً لأطأنّ عنقه، ولأعفّرنّ وجهه بالتراب، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليأطأ رقبته، فما فجِئهم إلاّ وهو ينكص على عقبيه، ويتّقي بيديه، فقيل له: ما لك.؟! فقال: إنّ بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً، وأجنحة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (لو دنا منّي لاختطفته الملائكة).

وقد كانَ حريّاً به بمثل هذه المواقف أن يذعن للحقّ، ويطامن من كبريائه، وبغيه وعتوّه، ولكنّ كبر الطغاة يجعل شقوتهم تغلب عليهم حتّى يكونوا مثلاً في الغابرين. وصدق فيه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (كَانَ هَذَا فِرْعَوْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ) [رواه أحمد في المسند من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برقم /3633/].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين