إيثاره صلى الله عليه وسلم حال الفقر على الغنى

لقد جاءته الدنيا وهي راغمة فآثر بها محاويج أمّته، وطوى في كثير من أحواله على الجوع مع نسائه.

إنّ العظماء حقّاً هم الذين يستعلون على الضرورَةِ أيّاً كانَت، أمام المبادئ التي يعيشون لها، ويجاهدون في سبيلها..

أخرج الترمذيّ من حَديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (عَرَضَ عليّ رَبّي عزّ وجلّ أن يجعلَ لي بطْحاء مكّةَ ذهباً، فقلتُ: لا ياربّ ! ولَكن أشبَع يَوماً، وأجوع يَوماً، فإذا جِعتُ تَضرّعتُ إليكَ، ودَعوتُكَ، وإذا شبعْتُ حمدتُكَ وشكرتُك) [أخرجه الترمذيّ في كتاب الزهد برقم /2270/ وأحمد في المسند برقم /21166/ والبيهقيّ في شعب الإيمان 21/343/].

وعن ابن عمر رضي الله عنه أنّه قال: إنّ جبريلَ عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فخيّره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، ولم يرد الدنيا.

وعن ابن طاوس عن أبيه قال: بُعث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ملك لم يعرفه فقال: إنّ ربّك تعالى يخيّرك بين أن تكون نبيّاً عبداً، أو نبيّاً ملكاً، فاشار إليه جبريل عليه السلام: أن تواضع، قال: نبيّاً عبداً).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللهِ لَوْ اتَّخَذْتَ فِرَاشاً أَوْثَرَ مِنْ هَذَا فَقَالَ: (مَا لِي وَلِلدُّنْيَا مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلاّ كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا) [رواه أحمد برقم /2608/].

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئاً يعجبه قال: (لبّيكَ إنّ العَيشَ عَيشُ الآخِرةِ).

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ)، قَالَ شُعْبَةُ: أَوْ قَالَ: (اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلاّ عَيْشُ الآخِرَهْ، فَأَكْرِمْ الأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرَهْ) [رواه البخاري في كتاب المناقب باب دعاء النبيّ: أصلح الأنصار والمهاجرة برقم/3584/ ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب غزوة الأحزاب وهي الخندق برقم/3368/ وهذا لفظه].

وعن مجاهد أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر من التلبية: (لبّيكَ اللهم لبّيكَ، لبّيكَ لا شريك لك لبّيكَ، إنّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والملك، لا شريك لك) قال: حتى إذا كان ذات يوم، والناس يصرفون عنه كأنّه أعجبه ما هو فيه، فزاد فيها: (لبّيكَ إنّ العَيشَ عَيشُ الآخِرةِ).

قال الإمام البيهقيّ: " وهذه كلمة صدرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنعم حاله يوم الحج بعرفة، وفى أشدّ حاله يوم الخندق. [هذه الآثار رواها البيهقيّ في السنن الكبرى 7/48/].

وقَدْ يتبادر سؤال إلى ذهن بعض الناس: ومَا الفرق بين أن يختار النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يكونَ عَبداً نبيّاً، أو يكون ملكاً نبيّاً.؟

" ولا ريب أنّ هناك فرقاً بين مقام الملكيّة والعبوديّةِ، فإنّ مقام الملكيّة يتطلّب اتّخاذ الجنود، واتّخاذ الحجّاب والخيول، واتّخاذ الخدم والقصور، ويتطلّب الانتقام ممّن يتَعرّض بالأذى لنفْسِ الملك.

وأمَّا مقام العبوديّةِ فإنّه يقتضي أن يخدمَ نفسه، وأن يكون في معونة أهله، تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم، ويقتضي العفوَ والصفح عمّن آذاه في نفسه صلى الله عليه وسلم، أمّا إذا انتهكت حرمات الله تعالى فينتقم لله تعالى " [" سيّدنا مُحَمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم " للشيخ عبد الله سراج الدين، ص/174/]. هذا من حيث الفرق الظاهر، وهناك ملحظانِ آخَران يراهما الكاتب أهمّ من ذلك:

الأوّل: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لو اختار مقَام الملكيّة مع النبوّة والرسالة لربّما ادّعى بعضُ المدّعين أنّ ما تحقّق له مِن انتصارات على أعدائه إنّما هو لِمَا كان عليه من قوّة الملك والسلطان، لا بسبب تأييدِ اللهِ لَه بما خصّه من نبوّة ورسالة، وربّما ادّعى آخرون أنّه جاء بما جاء به ليصل إلى الملك والسلطان، الذي حصل له، ولتكون له الرئاسة على الناس.

والملحظ الثاني: أنّ عظمة شخصيّةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم تتجلّى في مقام العبديّة أكثر، إذ هو عبد نبيّ، وله من الهيبةِ والتعظيم في النفوس ما يغني عن قوّة الملوك وسلطانهم، ويزلزل تيجان الملوك، وتخضعُ له الأكاسرة، ويقفُ على بابه العظماء خاشعين متأدّبين، ويتمنّى العظماءُ والملوك أن يحظَوا بشرفِ خدمته، والمثولِ بين يديه، وهذا هو الإعجاز بشخصيّتِه صلى الله عليه وسلم..

فيتبيّن من ذلكَ أنّ مقامَ العبديّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد انطوى فيه مَقامُ الملكيّة، وسما عليه، وهذا من غير المألوف في حياة الناس وأوضاعِهم.. وما مقام الملكيّة إلى العبوديّة النبويّة إلاّ كالوهم الخادع، والسرَاب الكاذب..

ولاشكّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم من تحقّق بمقام العبوديّة للهُ تعالى، وخير من كملت له مراتبها العليّة، وقد شرّفه الله عزّ وجلّ بهذا الوصف في مناسبات عديدَة من كتابه، منها قوله تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا}[الكهف:1]، وقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير}[الإسراء:1]، وقوله عزّ من قائل: {... إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[الأنفال:41].

وقد أكرم الله تعالى أمّة مُحَمّد صلى الله عليه وسلم بشدّةِ التعظيمِ والتوقير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والأدب معَه، ومعَ ذلك فهي لم تخرج به عن أشرف وصف له، وهو العبوديّة لله تعالى، كما فعل غيرها من الأمم، وهذا من تكريم الله جلّ وعلا لنبيّه صلى الله عليه وسلم، ورفعة قدره عنده.

هذا وقد صحّحَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مفهوم الناس عن الغنى وحقيقته، كيلا يخدعَ الناس بالمظَاهر عن الحقائق، جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) [رواه البخاري في كتاب الرقاق باب الغنى غنى النفس برقم /6081/ ومسلم في كتاب الزكاة باب لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ برقم /1741/].

فكم منْ فقير ذاتِ اليد، ولكنّه غنيّ القلب، عزيز النفس، بما هُو عليه من تعظيم النعمة، وعفّة النفس، والرضا بما قسم الله له؟!

وكم ممّن لا تحصى أمواله، ولا تُعَدّ مقتنياته، تراه لا تهدأ شكواه ولا تفتر، ولا تشبع نفسه ولا تقنع، ولا يكفّ جشعه عن أيّ مطمع، فهو من خوف الفقر في بؤس وفقر، وشتات أمر.؟!

طرفٌ من الحكمة في اختيار النبيّ صلى الله عليه وسلمحال الفقر على الغنى:

لقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الفقر والتقلّل من الدنيا والزُّهد فيهَا، مع ما أفاء الله عليه، وخصّه به من خُمْس الغنائِم، وما يأتيه من الفيْء بغَير حرْب أو قِتَال، فكان صلى الله عليه وسلم يردّ أكثر ذلك على أصحابه، ويؤثرهم على أهل بيته، فيواسي فقراءهم، ويسدّ حاجة محتاجهم، ويعين غارمهم، ويكرم الوفد القادم عليه، ويتألّف قلب بعض الناس على الإسلام، وأمثلة ذلك لا تحصى.. وكُلُّ ذلك لحكم تشريعيّة وتربويّة ودعويّة جليلة، لا مجال لبسْطها هنا، ولكنّنا نُشير إلى طَرفٍ منْها:

1 ـ فمن هذه الحكم أنّ حالَ الفقر أقرَب إلى التحقّق بذلّ العبوديّة والافتقار إلى الله منْ حال الغنى.

2 ـ أنّ التجرّد عن أسباب القوّة الظاهرة، من الغنى وبسطةِ العيش أبلغ في الإعجاز للبشر عندما يرونَ انتصارات النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المبهرة، على أعدائه في كلّ مَيدان.

3 ـ مواساة الفئة العُظمَى من أمّته، وهي ولاشكّ فئة الفقراء والمحتاجين على مرّ العصور والأجيال، إذ يجدون في أحوال نبيّهم صلى الله عليه وسلم ما يُصبّرهم على لأواء الفقر والفاقة، ويدعوهم إلى التأسيّ به صلى الله عليه وسلم، ويبثّ في قلوبهم الطمأنينة والرضا عن الله تعالى.

عن الحسن رضي الله عنه قال: " خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (والله ما أمسى في آل مُحَمّد صاع من طَعام، وإنّها لتسعة أبيات) والله ما قالها استقلالاً لرزق الله سبحانه وتعالى، ولكن أرادَ أن تتأسّى به أمّته " [رواه الدمياطيّ في السيرة، كما في الأنوار المحمّديّة ص/239/].

4 ـ الإعلاء منْ شأن الغنى الحقيقيّ الذي عرّفه صلى الله عليه وسلم بأنّه غنى النفس، وليس عن كثرة العرض، وأنّه أوْلى بالنظر والاعْتبار مِن جمعِ حُطام الدنيا، والتفاخر بزينتها، والنفس لا تشبع، ولا تقنع.

5 ـ تربية الأمّة تربية عمليّة على الاهتمام بالمقاصد العظيمة التي جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم لتحقيقها في حياة الناس، وحشد الطاقَات والجهود لبلوغها، وتَسخير مَتاع الدنيا لخدْمتها، ورفع البشريّة إلى مستوى التحقّق بهَا، وبيان أنّ هذه المقاصد لا تقتضي بالضرورة أن تكون الأمّة ذات رَغد في العيش، وسعة فِي أسباب الدنيا، بلْ إنّ الأمّة كلّمَا أخذتْ بأسباب الترف والرفاهية ابتعدت عَن تلكَ المقَاصد الشريفَة والغَايات النبيلَة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين