خصائص التربية النبويَّة (1)

وصلاته وسلامه على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين

المعلم الكامل:

أرسل الله سبحانه وتعالى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في محكم كتابه إخباراً عن دعوة إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 129].

شرحت الآية الكريمة المقصود من البعثة: وهي التربية والتعليم فإنَّ إبراهيم عليه السلام لما عهد الله له ببناء البيت العتيق ورفع قواعده دعا إلى الله تعالى بدعوة جامعة بين الأمرين الأساسيين في الدين وهما:

الاستسلام لأمر الله والخضوع لطاعته، وعدم الإشراك في الطاعة أحداً سواه وفي العبادة غيره، وخلاصة ذلك الإخلاص لله في الطاعة والعبادة.

وتربية الأمم والأجيال القادمة تربية جامعة لا مغمز فيها، ترتفع بالأمم، وتأخذ بأيديهم إلى الارتقاء.

فالتكوين التربوي شاءه الله تعالى، كما وضَّحته الخطوات التي حَيَتْها البشرية: فأنبأت أنَّ الطبيعة التي تكوَّنت، وتربَّت بها الأجيال منذ الأحقاب الأولى أنَّ الإنسانيَّة متصاعدة ابتدأت بالدرجة الأولى ثم أخذت تتصاعد شيئاً فشيئاً فهي مُكتملة بحسب دورها الذي تعيش فيه ثم هي تعطي للجيل المُوالي ما يُضيفه إلى من بعده.

فإبراهيم عليه السلام، ما كان في طور من أطوار الإنسانيَّة دعا الله أن يبعث رسولاً يعلم الناس ويزكيهم تطلعاً إلى درجة غير الدرجة التي هو فيها.

فكان من دعوة إبراهيم أن الإنسانيَّة لها أمران تقوم عليهما كما يقوم الإنسان بجسده على رجلين، والأمران المقام عليهما الإنسانيَّة هما:

العبادة والطاعة لله، وهي أمر مؤسَّس على الإخلاص لله في طاعته والقيام بالتوجه إليه بالصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك.

فالدين من ناحية التوحيد وتعظيم الله سبحانه لم يختلف دين عن دين فالقدر المشترك بين الأنبياء العبادة لله وحدَه لا شريك له مع اختلاف في الشرائع والمناهج، وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ) [رواه ابن كثير في تفسيره ج4 ص 117 أولاد العلات: الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد. أراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة].

والتعليم والتربية للأمم لتنهج المناهج الصحيحة. والتعليم والتربية اللذان دعا إبراهيم الله بأن يبعث نبياً خاتماً يقوم بها عامَّانِ في العبادة، وتعليم الخير ليفعل، وتعليم الشر ليتقى. فتعليم الكتاب القرآن، وتعليم الحكمة الحديث، والتزكية التطهير والإصلاح.

امتياز التربية الدينية:

ولتكون التربية الدينيَّة على الوجه المبني عليه البناء الذي أراده الله تعالى خصَّ سبحانه خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم بتربية ذات خصائص لا يمكن لعقل بشري مهما أوتي من الذكاء والفطنة أن يأتي بمثلها، فالعقل الممتاز يستطيع أن تتفتح له آفاق في ميادين شتى إلا أنَّه في خصوص ما جاء به الإسلام في عجز لأنَّ الدين المبني على التربية هو من خصائص الشرائع المنزَّلة من ربِّ السموات والأرض، ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88].

فالقرآن كما عجزت الإنس والجن على مُحاكاته في فصاحته وحُسن نظمه: كذلك هم عاجزون على الإتيان بمثل مبادئه الجامعة لكل ما تحتاج إليه الإنسانيَّة ومبادئ القرآن هي التي تمثَّلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم إظهاراً لبيان أنَّ تلك المبادئ ليست نظريَّات مجرَّدة لا تطبق بل هي مطبَّقة في تلك التربية التي مثَّلها الله جلَّ جلاله في نبيِّه حتى تكون ممثَّلة في الذين التأموا حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتظهر فيهم، ثم يتناقلها خلف عن سلف.

الرسالة النبويَّة تربية:

يتضح مما تقدَّم أنَّ بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوة إبراهيم عليه السلام تعليم وتزكية للمبعوث إليهم.

وما دعا به إبراهيم استجيب له، وهو ختم الرسالات بخاتم الأنبياء بدعوة عامَّة شاملة تُكيِّف المعتنقين لها، وتربيتهم الصحيحة النافعة.

فالرسالة تربية وتعليم كما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان.

أشار في هذا الحديث إلى أنَّ الخصائص الإنسانيَّة في التربية ليست من قبل الغرائز كالحيوان: بل هي موقوفة على من كان سبباً في وجوده وهما الأبوان: فلذلك كان التعليم منهما وخاصة الوالد هو الدرجة الأولى في التعليم، والتعليم الأبوي الذي هو الصنف الأول من التعليم تولاه أيضاً النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في بسائط الأمور لإخراج النشأة الصالحة المستجمعة للتربية بحذافيرها.

فالذي يتولاه الأبوان قد تولاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وليست تربية النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقصورة على ما يربِّي به الأبوان ابنهما من الأمور الأوليَّة، وإنما هي تربية تشمل مجموع الإنسان في أخلاقه وسلوكه، وإدارة نفسه الإدارة النافعة وغير ذلك.

وهو ما أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). رواه الحاكم في المستدرك، والبخاري في الأدب المفرد وغيرهما، فالحديث يشير إلى أن التربية الكاملة هي التي بُعث بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وبهذا امتاز الإسلام عن غيره فأصبح ديناً ممكّناً له في الأرض، يأتي بالخير من منابعه، ويدفع بالشر دفعاً حتى لا يصيب من توقَّاه.

العناية بالتربية النبويَّة:

فكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم تربية كما أفاده ونقله لنا علماء الحديث لكن منهم من نظر إليه من الناحية التربويَّة، ومنهم من نظر إليه نظراً أعم، فهذا البخاري الإمام الحافظ (256) نظر إلى الحديث من الناحية الأولى فجمع الكثير من هذه التربية في كتاب خاص، وهو الأدب المفرد، ذلك الكتاب الجامع في التربية النبويَّة.

وصنع فيه صنع حكيم حين ابتدأه بالأدب النبويِّ في تربية الأبناء مع الآباء فاستهلَّه بالأحاديث الداعية والمربّية للمرء مع أبويه أمه وأبيه. فكانت طالعة كتابه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي سأل فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أيِّ الأعمال التي هي أحب إلى الله تعالى، فأخبره صلى الله عليه وآله وسلم بأنه (الصلاة على وقتها). ثم سأله عما بعده، فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ثم بر الوالدين). ثم سأله عما بعد هذا، فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم (ثم الجهاد في سبيل الله).

ثم اعتنى بالتربية النبويَّة اعتناءً خاصَّاً فجمع فأوعى وأتى بها مشمولة الأطراف، ومجموعة سائغة - ابن قيم الجوزية (751) في كتابه: (زاد المعاد في هدي خير العباد).

وما استهلَّ به كتابه ما ذكره من الاحتياج الأكيد إلى التربية النبويَّة في هديها الساطع.

(فصل)

ومن هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به. وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر به، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ولا ينال رضا الله البتَّة إلا على أيديهم فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، ومتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال. فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها والروح إلى حياتها.

فأي ضرورة وحاجة فرضت بضرورة العبد، فحاجته إلى الرسل فوقها كثير وما ظنّك بمن إذا غاب عنك هديه، وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة. فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل هذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحسُّ بهذا إلا قلب حي و(ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ).

وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلَّقة بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيجب على كل من نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه. والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. [ زاد المعاد ج1 ص15].

جاءت كلمة ابن القيم في زاد المعاد تحريضاً على التربية النبويَّة، دعوة حارة لارتسام خطاها، واتباع هداها وبياناً واضحاً من أنها أوكد المؤكدات، حتى من الحياة التي هي أثمن وأعز ما يحافظ عليه الحريص على نفسه.

ليست التربية النبويَّة مقصورة على هذين الكتابين بل كتب السنة كلها شارحة ومبيِّنة للتربية النبويَّة، وإنما الأدب المفرد للبخاري، وزاد المعاد لابن القيم أبرزا التربية النبويَّة في صورتها الواضحة فاستحقا أن يكونا أبرز المؤلفات في الناحية التربويَّة للرسالة العظيمة، وهي الناحية الأولى ويبرز لنا الغوص العميق أنَّ القرآن تربية إذ هو هداية، وما الهداية إلا تربية وتنبيه للعقول، وإيقاظ الأفهام فقد جاء بعد حمد الله وتمجيده والاستعانة به قوله: ﴿الٓمٓ١ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ٢﴾[البقرة:1-2] فالقرآن أصل التربية الإسلاميَّة إذ ركَّز فيه وبيَّن ما يقوم عليه العمل الصالح.

﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، فهو كالشمس التي تستمدُّ منها الحرارة التي هي الطاقة للحياة، فالقرآن الطاقة الحراريَّة للحياة القويَّة الهادفة لإصلاح الإنسان في نفسه وإصلاح المجتمع، فبدونه تتخبَّط المجتمعات خبطَ عشواء كما هي عليه اليوم، كلما أرادوا إصلاحا بدا لهم مهوى عميق مخيف.

خصائص التربية النبويَّة:

تمتاز التربية النبويَّة بميزات تكاد لا تنحصر: لأنها كلما تعمَّق فيها الناظر بدت له خصائص ناطقة بما تمتاز به، فالخصائص التربويَّة النبويَّة تدعو الباحث فيها أن يخصَّها بتأليف خاص إبرازاً للتربية الممتازة الضرورية للحياة الصحيحة المستقيمة ونجتزئ في الكلمة المقدمة اليوم ببعض الخصائص التي هي كالعنوان لغيرها، فمن أبرز الخصائص للتربية النبويَّة أنها عامَّة في كل الحالات التي يتقلَّب فيها الأفراد.

من ذلك هديه القويم صلى الله عليه وآله وسلم في الحالات الطبيعيَّة كالأكل والنوم والانتباه واللباس والمشي والجلوس والبيع والشراء وغير ذلك.

وهو ما جاء في كتب الشمائل النبويَّة المتمثل فيها التربية النبويَّة في تنظيم الأحوال الطبيعية للإنسان، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدَّم: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم).

وهديه في العبادات في الطهارات والصلاة والزكاة والصوم والحج هدى على هدى.

وفي هديه في العبادات تربية اقتصاديَّة مثل ما جاء في الحديث من أنه صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو يتوضأ فقال له: (ما هذا السرف؟ فقال له وهل في الماء من إسراف؟ قال: نعم، وان كنت على نهر) [عن عمر بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بعد الحديث وهو في ابن ماجة ج1ص147].

في التربية النبويَّة اغتنام الفرص لإبداء لفت الفكر إلى نوع من التربية كما جاء في الحديث المتقدم: فإنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين رأى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يسرف في الماء حين وضوئه استفهم عن إسرافه فنتج عن تساؤله عن الإسراف في الماء تساؤل سعد عن كون الماء يكون فيه إسراف؛ فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الماء فيه إسراف ولو كان المتوضئ على نهر جارٍ.

وفي التساؤل بينهما من بديع الحكمة ما يعزُّ نظيره وهو أنَّ الماء مادَّة حيوية وإن توفَّر بين الأيدي لا ينبغي الإسراف فيه.

بقي إذا لم يسرف المستعمل للماء فما وراء ذلك؟

ما وراء ذلك غفل عنه الكثير في استنباطه من الحديث، وهو أننا إذا لم نسرف فيه نحافظ عليه لمصالح أخرى.

نحافظ عليه فلا نتركه ينساب سبهللا، بل نفكر كيف نستفيد منه استفادات متعددة وهو ما أهمله الكثير فأضاعوا الاستفادة من الماء لا في عصورنا الذهبية، وإنما في عصور التقهقر التي أعرض الكثير فيها عن الإسلام إما جهلاً وإما استعاضة بغيره.

وفي الدعوة إلى عدم الإسراف في الماء دعوة صارخة إلى الاقتصاد في الاستعمال في كل ما نستعمله، والاقتصاد الذي يشير إليه الحديث هو أن المستعمل لا يستعمل الشيء إلا بقدر حاجته، فيما اعتاده المعتادون من التبذير للأشياء دون استفادة منها هو ما حذرنا منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونبهنا تنبيهاً حكيماً كيف نستعمل ما هو من ضروريتنا في هذه الحياة.

وقد تنبَّه الغرب اليوم إلى النهي عن الإسراف في مادة الوقود حين اضطرتهم الحاجة وهو ما نادى به الإسلام منذ قرون.

في التربية العائلية:

وهديه في حياته العائلية نموذج من أعلى النماذج التي يعيشها الزوجان: فحياته صلى الله عليه وآله وسلم جاءت أتمّ حياة زوجيَّة بصورة ممتازة غير التي يظنها الناس، يظنون أنَّ رغادة الحياة الزوجية تكون بالإسراف على الزوجة في المأكل والمشرب والملبس، والنزهة والقصور والخدم.

ويظن غير هؤلاء أنَّ السعادة بالاستخذاء للمرأة وتحكّمها في شؤونه ومن نماذجه ما وقع لبعض الأمراء الذين حكَّموا نساءهم في شؤونهم فآلت حالهم إلى أسوأ حال.

ويظن فريقٌ أنَّ هناء البيت في الشدَّة مع المرأة ومعاملتها المعاملة القاسية. الشديدة امتلاكاً لزمام البيت فتصبح المرأة لا جدوى لها في الحياة البيتية، ويسبب ذلك القضاء على المدرسة البيتية للأبناء.

كل نظرات في التربية الزوجيَّة غير صائبة وهي خواطئ، وليس في هذه الخواطئ سهم صائب، وإنما الصائب ما جاء من مثاليته الزوجية منه صلى الله عليه وآله وسلم سواء في سيرته البيتيَّة الكريمة، أو دعوته للصحابة في معاملة الأهل.

ومن ذلك ما جاء عن عائشة رضي الله عنها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا إلى الإحسان إلى الأهل في قوله: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). رواه عن عائشة الترمذي: ورواه عن ابن عباس ابن ماجة.

حذَّر هذا الحديث الصحيح من أن تكون القسوة الركيزة التي تقام عليها العلاقة بين الرجل وزوجته، وكذلك بينه وبين أقاربه. وضَّح النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ خير الناس هو خيركم لأهله، وهو ما أدَّبه عليه ربه تعالى فكان مثالاً عاليا في الخيرية للأهل بالمعنى العام والخاص وإنما جاءت هذه الدعوة الحارَّة إلى ذلك لأنَّ العلاقة بين المرء وزوجه إذا لم تكن كما أرادها الإسلام وعاشها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن علاقة ورابطة بين أساسي البيت الأب والأم وإنما هي قيد يجمع بين رجل وامرأة.

واذا كان البناء البيتي على أنَّه قيد يتقيَّد به الرجل مع زوجه، لا يقوم مُجتمع ولا يدوم إلا إلى أمد قريب حتى تظهر فيه المحطات للمجتمع، وبذلك يتدهور في ظلمات بعضها فوق بعض.

والعجب كيف يسيء البعض إلى زوجته والله يقول في محكم كتابه: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فإنَّ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19].

فلا ينبغي للزوج أن ينساق لبادرةِ الكراهة لزوجه فعساه إن كره منها خلقاً حمد آخر كما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يفرك - لا يبغض - مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي آخر». [ذكره ابن ماجة].

وقد أوجب الإمام مالك رضي الله عنه على الرجل أن يتحبَّب لا إلى زوجته فقط بل أوجب عليه أن يتحبَّب إلى أهل داره حتى يكون أحب الناس إليهم.

ومن القدوة مما يؤخذ من السيرة النبويَّة في الإفساح للزوجة في إبداء رأيها دون أن تكون مسلوبة من إعطاء رأيها أنَّه كانت أزواجه تراجعه الكلام الحديث، وهو من حديث متفق عليه من الشيخين البخاري ومسلم.

وأشعرت المعاملة النبويَّة الممتازة الصحابيات بأنَّ لهنَّ حق المراجعة، كما ثبت أنَّ إمرأة عمر رضي الله عنه راجعته في الكلام، فقال: أتراجعيني؟ فقالت: إنَّ أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يراجعنه، وهو خيرٌ منك.

وحصل بحسن خلقه الكريم أنَّ زوجاته كنَّ صالحات يردن اللهَ ورسوله، ولم يحصل ذلك بعيش المترفين الذين يظنون أنهم بالعيش المترف البالغ حدَّ الإسراف يجتذبون ودَّ زوجاتهم.

فبسيرته في بيته الشريف النموذج الذي ينبغي أن يؤنسهم في الحياة الزوجية ففيه الاعتدال في المعاملة والمعاشرة بالمعروف، مما هو من السيرة المرضية من الله تعالى ورسوله: وهو النطاق الحكيم الذي حدَّده الشرع الناظر للمصالح بعين تجمع المصلحة من أطرافها دون أن يشذَّ عنها شيء ما.

وبالتربية النبويَّة للزوجة تربية فائقة أصبحت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في درجة من العلم والمعرفة، فأخذ عنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من حياته الهادفة إلى الإصلاح ما أصبح مصدراً للتشريع، ومنبعاً للمعرفة، روی ابن عبد البر في الاستيعاب عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: كانت عائشة رضي الله عنها أفقه الناس، وأحسن الناس، وأعلم الناس رأياً في العامَّة.

وقال هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت أحداً أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة.

وعن مسروق رأيت مشیخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض؛ أعطانا عطاء بن رباح جملة موجزة غاية الإيجاز في التعريف بعائشة رضي الله عنها من أدقِّ ما يعرف به، وهي أنها أعلم الناس رأياً في العامَّة.

ومعنى هذه الجملة على أحد الاحتمالات فيما تفيده وهي أنها أعرف النساء بالعامَّة، والمعرفة الدقيقة بالعامَّة، أمر عزيز على العقول لا تستطيعه إلا العقول النيِّرة.

ومن معاني هذه الجملة نستفيد أنَّ الرأي في العامَّة لا يتأتّى لكل أحد وإنما هو من مميزات خواص الخواص ونستفيد من هذه الجملة معنى آخر، وهو أنها أعلم الناس بحسب الرأي في عامة الناس دون تخصیص ببعض منهم.

رضي الله عنها، كانت أعمق معرفة بالنفسيات المختلفة المتباينة المشارب كما هو متعارف في نفسيات العامة، شخصية القيادة الفذة.

في أصول السياسة:

تكمن الهداية النبويَّة الكبرى في قيادته الجامعة لمعنى العظمة لا عظمة الكبرياء، وإنما عظمة كمال الصفات المطلوبة في القائد الذي تجتمع حوله القلوب لتكون على الخير معوانة، ولتصبح ذات قيادة حكيمة حين تتبوَّأ مقام الخلافة.

فهو الشخصيَّة الفذَّة الكاملة التي ألقت إليها قلوب الناس عامَّة بزمامها فملأت نفوسهم روعة من نوع خاص، وهي روعة المحبة الناتجة عن اقتناع الضمير فإنه منفرد في كمالاته المؤهلة له للتقدم وأخذ أعنَّة القلوب، وليست الروعة من قبيل المتعارف وهي الروعة المفروضة على الأفئدة والأدمغة بتكييف الحياة. وإحاطتها بسياج من الأعوان، وفرض أحكام تدخل الرعب.

والهداية النبويَّة في سياسة الأمور، وإدارة دفتها تعليم اللذين يتبوأون رعاية شؤون الأمم لأنَّه كذلك يصدر منه ما يكون تربية للقادة وتنويراً للأبصار في سياسة الناس، فهو وإن بلغ أقصى الدرجات، وكان في منزلة لا يدانيه فيها مدان في مظهر بشري يدعو للاقتداء.

وقد نطق الكتاب الكريم بما يفيد أنه ذاتية تعليمية يأخذ منها كل أحد بحسبه في الناحية المبتغاة له: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].

فهذه الآية أصل كبير في التأسي واتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل أحواله وأفعاله وأقواله، فهو القدوة العظمى في سائر الفضائل وشتى التكوينات الإنسانيَّة فيغترف المغترفون من فضائله ما يكون لهم رائداً في حياتهم، أي حياة كان نوعها.

وظهر منه المظهر البشري فيما يلزم القائد المخلص، والسياسي المحنَّك فيما رواه الترمذي في كتاب الشمائل عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصَّافاً: فقلت: صف لي منطق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متواصل الأحزان دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة. [هند بن أبي هالة هو: هند بن أبي هالة ربيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمه خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قتل يوم الجمل].

أتی وصف هند بن أبي هالة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم موضحاً لما يلزم أن يكون عليه متولي أمر الأمَّة من كونه متواصل الأحزان مع إدامة التفكير مع فقدان الراحة، إنما كانت هذه الصفات لمتولي أمر الأمَّة لما نوضحه من معناها وضروريتها.

فتواصل الأحزان المراد به التيقظ لما يستقبله من الأمور فالليالي حبالى يلدن كلَّ عجیب، فضبط الأمور ضبطاً يكفُل للأمَّة الراحة يستدعي من السائس أن يكون على حذر وأن يكون مُستيقظاً لما يحدث حتى لا تباغته الحوادث بالكوارث، وأن يكون قد أعدَّ لكل مشكلة حلاً وبذلك تنعم الأمَّة، وتصبح في أرغد حياة.

فالتيقُّظ والحيطة منه تربى بها خلفاؤه الراشدون وبذلك أصبحت الأمَّة الإسلاميَّة تغنم كل يوم غُنماً في القوة والتمكن في الأرض بأسباب التمكن القوية.

فسياسته المشروعة جمعت ما تحتاجه السياسة الحكيمة من كونها تفتح على الأمَّة بما يهديها ويسدد خطاها ويشد عضدها، ويضيء لها سبيل الرشد مع قوة تردع الباطل، وتكفُّ اليد العاملة كما قال كعب بن زهير بن أبي سلمى رضي الله عنه:

إن الرسول لنور يستضاء به ** وصارم من سيوف الله مسلول

اقتصر مترجمو كعب على ما يفيد أنه أسلم لأن أخاه كتب له: النجاء من أجل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهدر دمه مع أنه لا مانع من أن يكون إسلامه لما وقر في نفسه مما عبر عنه في قصيدته الغراء المعروفة بالكعبية. ولعله هو الدافع الأقوى.

أنطق الواقع المحسوس كعباً فوصفه بالصفتين الضروريتين للسائس الموفق في أعماله، وفي قيادته ؛ أسلم كعب بن زهير لا خوفاً من أجل إهدار دمه فقط، وإنما دعاه الواقع إلى أنه رأى في الرسول أنه القائد للأمم كلها لما اتَّصف به من سياسة بارعة، ونظرات ثاقبة واهتمام بالغ في الإشراف.

وإدامة الفكرة ليست مقصورة على التفكير في ملكوت السموات والأرض لأنَّ التفكر في ذلك من أعظم العبادات: إذ يشمل تفكره فيما ينفع الناس ديناً ودنيا، وينقذهم من الضلالة، والجهالة وإدامة الفكرة لتوزُّعه على جوانب مختلفة متعددة متباينة أحياناً، فالإلمام بها، والقيام بما تستوجبه يستدعي أنَّ حركة الفكر لا تقف كالعجلة التي تدير رحی السير المنتظم فإذا وقفت وقف معها السير.

وفقدان الراحة يستدعيه الاشتغال الدؤوب بوظائف عديدة منها ما يرجع للعبادة والقربات.

ومن الوظائف ما يتطلَّبه التدبير لما يصلح الأمَّة، ولتربيتها التربية الناجعة وللجهاد والمواساة وتدبر المهمَّات الدينيَّة والدنيويَّة.

تجلي التربية السياسة في الخلفاء الراشدين:

بدأ الهدى في السياسة الرشيدة في الخلفاء الراشدين فساروا على المنهاج البادي في حياته السياسية، ولذلك لم تختلف على الأمة القيادة الرشيدة ومن أجل الرشد الواضح سمي الخلفاء الأربعة بالخلفاء الراشدين.

ومن آثار التربية النبويَّة فيهم مما تقدم من الصفات أنهم واصلوا الاهتمام البالغ في شؤون المسلمين فلم يفرِّطوا في لحظة من حياتهم لغير صالح فقاموا بأعباء الخلافة مؤدَّاة في كل مقوِّماتها.

فأبو بكر رضي الله عنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشرأبَّ النفاق وارتدَّت العرب وانحازت، فكان رضي الله عنه كما قالت ابنته عائشة رضي الله عنها: لو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي بكر لهاضها، في اختلفوا في نقطة إلّا طار أبو بكر بغنائها وفصلها.

إنَّ مواقف أبي بكر في حروب الردَّة وغيرها دلَّت على أنَّ إيمانه لا يوازنه إيمان في الثبات والقوَّة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وكذلك عمر انصرف اهتمامه كله لصالح المسلمين، فتفكيره في لحظاته كلها فيما هو بصدده من أموره.

ويصور شدَّة اهتمامه كمواصلة الأحزان من سيد الخليقة ما أخرجه أبو نعيم في الدلائل عن عمرو بن الحارث قال: بينما عمر بن الخطاب على المنبر يخطب يوم الجمعة إذ ترك الخطبة فقال: يا سارية الجبل مرتين أو ثلاثاً. ثم أقبل على خطبته: فقال بعض الحاضرين لقد جُنَّ: إنَّه لمجنون.

فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف، وكان يطمئن إليه، فقال: ما ألومهم عليك، إنك لتجعل لهم على نفسك مقالاً، بينما أنت تخطب إذ أنت تصيح يا سارية الجبل، أي شيء هذا؟

قال: إني والله ما ملكت ذلك رأيتهم يقاتلون عند جبل يؤتون من بين أيديهم ومن خلفهم فلم أملك أن قلت: يا سارية الجبل ليلحقوا بالجبل.

لم يخل عمر لحظة من الاهتمام بأخذ أيدي المسلمين فهو في خطبته التي هي بمنزلة ركعتي الظهر يغلب عليه تفكيره في أمر المسلمين فينادي يا سارية الجبل، وسارية هو ابن زنيم الدئلي أمَّره عمر على جيش، وكان من الصحابة لأنهم كانوا لا يؤمِّرون إلا الصحابة، وسيَّره إلى فارس سنة ثلاث وعشرين، فلما نادی عمر بذلك ألقاه الله في سمع سارية فانحاز بالناس إلى الجبل، وبذلك انتصر المسلمون.

وكذلك وقع له في الصلاة فإنه لما أخبر بأنَّ أهل العراق قد حصبوا أميرهم فخرج فصلى غضبان فصلى فسها في صلاته، فلما سلم قال: اللهم إنهم قد لبسوا فألبس عليهم فسلط الله عليهم الحجاج. (أخرجه البيهقي في الدلائل).

للمقالة تتمة في الجزء التالي

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبويَّة، الدوحة، محرم 1400هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين