الموجز في التاريخ: معركة الجسر

بعد هزائم الفرس المتتالية أمام جيوش المسلمين بقيادة أبي عبيد؛ اجتمع الفرس في المدائن، وفكروا بطريقة يهزمون بها المسلمين، ولو لمرة واحدة، يرفعون بها معنويات جيوشهم المنهارة؛ فاجتمع رأيهم على رستم، فجهز رستم جيشًا بقيادة ذو الحاجب، وأخرج مع الجيش راية كسرى العظيمة، المصنوعة من جلود النمور، وكانت هذه الراية لا يُخرج بها إلا مع الملوك، وأخرج الفيلة مع الجيش لأول مرة في حربهم ضدَّ المسلمين، ولما وصلوا أرض المعركة، كان بينهم وبين المسلمين النهر، نهر الفرات، وعليه الجسر، فراسل الفرسُ المسلمين: إما أن تعبروا إلينا، أو أن نعبر إليكم، واتفقت كلمة المسلمين على أن يعبر الفرس إليهم، إلا أن أبا عبيد فاجأهم، وقرر عبور النهر بجيشه، وكانت هذه أولى أسباب هزيمة المسلمين في هذه المعركة.

لما دارت المعركة بين الجيشين كانت خيول المسلمين تنفر من الفيلة، وتذعر من أصوات الجلاجل التي عليها، حتى ترجل أبو عبيد عن فرسه، وترجل الناس معه، وواجهوا فرسان الفرس ومشاتهم راجلين، وتلقوا نبالهم بصدورهم، وأظهر المسلمون في هذه المعركة من البسالة والتضحية ما يندر مثلها في التاريخ، وكانت الفيلة أشدَّ ما واجه المسلمون في هذه المعركة، حتى نادى أبو عبيد بالجيش أن يجتمعوا على الفيلة، ويقطعوا أحزمتها، ويقلبوا عنها أهلها، وبدأ بنفسه فتقدم للفيل القائد، فقطع أحزمته، وقتل من عليه، وفعل المسلمون ذلك بكل الفيلة، لكن الفيلة استمرت تدوس صفوف المسلمين، وكانت مدربة على القتال؛ فرأى أبو عبيد أن يقتلها، فتقدم ليضرب الفيل في أشفاره، فاتقاه الفيل بيده، فألقاه أرضًا، ثم داسه بأقدامه فقتله، فتسلم الراية بعده أخوه: الحكم بن مسعود، فقتل كما قتل أبو عبيد، وقتل بعده غيره من القادة أيضًا.

وهكذا قتل في هذه المعركة عدد من قادة المسلمين؛ حتى تولى القيادة أسد العراق: المثنى بن حارثة، وكان عدد من المسلمين قد عبروا الجسر منسحبين، فأقدم عبد الله بن مرثد الثقفي فقطع الجسر، وقال: موتوا على ما مات عليه أمراؤكم، أو تظفروا، وحاول منع الناس من العبور، وكانت هذه الغلطة الكبيرة التي تسببت بهزيمة المسلمين، وقتْلِ عدد كبير منهم، وغضب المثنى على عبد الله بن مرثد لفعلته هذه، حتى إنه لشدة غضبه منه ضربه؛ لأن قطعه الجسر أدى لغرق كثير من المسلمين في النهر، بسبب شدة ضغط الفرس.

ولم يكن بدٌ أمام المثنى من الانسحاب؛ ليسلم بقية الجيش، فقد حاول قائد الروم ذو الحاجب القضاء على بقية الجيش المسلم، فحال المثنى دون ذلك، حيث أمر بعقد الجسر، وأمر الناس بالانسحاب، وأخذ يحميهم بمن معه من الرجال، حتى عبر أكثرهم، ثم عبر هو ومن معه، مخلِّفين وراءهم أربعة آلاف من الشهداء، منهم عدد كبير من الصحابة الذين قدموا مع أبي عبيد من المدينة، ولم يبق مع المثنى إلا ثلاثة آلاف، وقتل في هذه المعركة من الفرس أكثر من ستة آلاف.

ثم ما لبث المثنى بعد هذا الانسحاب، وهذه الهزيمة التي حلت بالمسلمين؛ أن استدرج قائدين من قادة الفرس إلى السماواة، حتى إذا ما توغلا فيها؛ شنَّ عليهم هجومًا صاعقًا، قاده بنفسه، فأوقع بهم هزيمة عجيبة، لم يتوقعها الفرس من جيش هزم لتوِّه، وقتل منه أربعة آلاف، وأسر المثنى القائدين الفارسيين، وأعدمهما، فرفعت هذه المعركة من معنويات بقية الجيش المسلم، ورفعت قيمة المثنى في نظر جنوده، ولقد كان بإمكان الفرس أن يلاحقوا بقية الجيش المسلم، ويقضوا على وجودهم في العراق؛ ولكن الله قيَّض من الأسباب ما صرفهم عن ذلك، حيث دبَّ الخلاف بينهم؛ فانشغلوا به، حتى وصلت الإمدادات من دار الخلافة، فتقوى بها المسلمون، وصار لهم جيش كبير.

لـمَّا وصلت أخبار هزيمة المسلمين في معركة الجسر إلى عمر بن الخطاب؛ حزن على المسلمين حزنًا شديدًا، وقال: اللهم كل مسلم في حلٍّ مني، أنا فئة كل مسلم، من لقي العدو فَفُظِع بشيء من أمره فأنا له فئة، يرحم الله أبا عبيد لو كان انحاز إلي لكنت له فئة، ثم أخذ يرسل الجيوش إلى العراق، حتى اجتمع للمثنى جيش كبير جدًا، لما علم به قادة الفرس أرسلوا جيشًا لحربه، فالتقى الجيشان في البُويب، وليس بينهما إلا النهر، فعبر الفرس النهر إلى المسلمين، وذلك في شهر رمضان، عام 13 هــ، ودارت بينهما معركة عظيمة، قتل فيها قائد الفرس مهران، وأقدم المثنى على قطع الجسر على الفرس، وأنزل بهم المسلمون مقتلة عظيمة، حتى قتل منهم نحو مئة ألف، تجمعت جثثهم أكوامًا عند النهر.

وقد ندم المثنى على قطعه خط الرجعة على الفرس، وقال: عجزت عجزة وقى الله شرها؛ لمسابقتي إياهم إلى الجسر، وقطعه حتى أحرجهم، فإني عائد فلا تعودوا، ولا تقتدوا بي أيها الناس، فإنها كانت مني زلة، حيث رأى -رحمه الله- أن في منع الأعداء من الفرار؛ إلجاءً لهم إلى الاستماتة في القتال دفاعًا عن أنفسهم، وبعد هذه المعركة لم يقعد المثنى فرحًا بنشوة نصره، بل حض الناس على تتبع جيش الفرس المنهزم، ثم وسع غاراتِه داخل العراق، حتى وصل إلى تكريت شمالًا، وغنم غنائم كثيرة جدًا؛ فجزى الله المثنى عن الإسلام خيرًا، ورحم أبا عبيدٍ الثقفي وإخوانه، ممن قضى في معركة الجسر وغيرها(1).

(1) ينظر: الصلابي، عمر بن الخطاب، مصدر سابق، 363.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين