الحُجُراتُ النبويّةُ الشريفةُ مبنىً ومعنىً، رمزاً ورسالةً ومَعلماً من معالم النبوّة وآياتها البيّنات

وقْفةُ مُحِبّ أمامَ الحُجُراتِ النبويّة الشريفة

إنّها مسكن الحبيب.. وللمحبّين أمام مسكن الحبيب وقفات وتأمّلات، ومشاعر وذكريات، قد لا ينتبه إليها كثبر من الناس، ولا يهتمّون باستثارتها.. ولكنّ المحبّين شأنهم آخر دائماً.. فكيف إذا كان الوقوف أمام مسكن الحبيب الأعظم.؟ وكيف إذا كانت الذكريات تتّصل بأعظم دين، وخير رسالة.؟!

أين في هذه الحجرات الزخرفة والزينات.؟ أين مظاهر القوّة والأبّهة، والسلطان والعظمة.؟ أين الخدم والحشم، وأواني المشرب والمطعم.؟ أين الأنوار المُبهرة، والعطور الفاخرة، والستائر الزاهرة.؟ إنّك أيّتها الحجرات الشريفة أرفع من ذلك وأجلّ.. إنّك الزينة الحقّة لأهل القلوب والأرواح..

فقف معي أيّها المحبّ ! مصلّياً على الحبيب مسلّماً، متدبّراً متأمّلاً.. قف معي بقلبك وروحك، وعقلك ولُبّك..

فقد وقف قبلي وقبلك دُون عظمةِ هذه الحُجُراتِ الشريفة المباركة.. على مرّ القرون والأجيال: العظماء والملوك، والأغنياء والكُبراء، والعلماء والحكماء، كما وقف العابِدون الأتقياء.. كلٌّ وقف متأمّلاً معتبراً، متواضعاً خاشعاً، يتملَّى هذا الموضع المبارك من الأرض، الذي علّم الدنيا كيف تكون العظمة الحقّة، وكيف تتسامى مجرّدة عن زخرف الدنيا وزينتها، ولكنّها تملك من زينة الحقّ ما يجعلها نفحة من نفحات الخلود الزكيّة.. تمنح الحياةَ سرّ وجودِها، وشرف غايتها، ومتعةَ أنسها، وتربط الدنيا بالآخرة، في اتّصال وثيق تنمحي به عوامل القطيعة والفناء.. ويحسّ من يعيشه انجذاباً نحو الآخرة، وكأنّ الانتقال إليها رحلة سياحة ممتعة محبّبة، إلى متنزّه من متنزّهات الدنيا، التي تتطلّع إليها النفوس، وتتمنّى لو تحظى منها بوصلٍ أو تفوز.. إنّها تعلّم الناس سرّ العظمة الحقيقيّة، التي تتجرّد عن زينة الدنيا وسلطانها، ولكنّها تملك زينة الحقّ وسلطانه، وهيبتَه وتأثيرَه.. فلا يقف أمامها شيء، ولا تَغلبها قوّة..

هذه الحُجُراتُ تلألأت في جنباتها أنوارُ الوحي صباح مساء، وحطّت على تربتها المباركة أجنحة جبرائيل والملائكة الكرام عليهم السلام آناء الليل وأطراف النهار، ورفرفت حولها هائمة، زائرة لساكنها صلى الله عليه وسلم، مسلّمة عليه مباركة.. واشرأبّت إليها قلوب صفوَة الرجال، وتعلّقت بها الأبصارُ.. ووقف على بابها العظماء، يتنافسون في نيل بركاتها، ويلتمسون الحظوة بشرف الخدمة لسيّد الرسل والأنبياء صلى الله عليه وسلم..

هذه الحُجُراتُ شهدت قيام النبيّ صلى الله عليه وسلم من الليل حتّى تفطّرت قدماه، وشهدت خلوته بالليل مع ربّه.. ومناجاته لربّه ودعاءه، وشهدت حبّه وأشواقه، وتضرّعه وبكاءه، وشهدت حولها حِلقَ العلم والقرآن، ومجالس الذكر ونفحَات الإيمان، وشهدت استقباله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رجالاً ونساءً، وتذكيرهم ووعظهم، ومجَالسته إيّاهم ومؤانَستهم، وحلّه لمُشكلاتهم في أدقّ شئون حياتهم، وشهدَت مجالس شورَاه مع خيارِ الصحب الكرام.. كما شهدت استقبال الوفود ودعوتهم إلى الله تعالى، بالحكمةِ والموعظة الحسنةِ، ومجادلتهم بالتي هي أحسن..

هذه الحُجُراتُ المباركة شهدت حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم الخاصّة، الزاهدة المتواضعة مع نسائه، يخدم نفسه، ويخدم أهله.. يصبر على الجوع، ويطوي أيّاماً، ويطوين معه رضي الله عنهنّ راضيات قانعات، بعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، يمرّ عليهنّ الهلال والهلال والهلال، ولا توقد في بيوتهنّ نارٌ.. ليس لهم من طَعام إلاّ الأسودان التمر والماء..

هذه الحُجُراتُ شهدت أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم الكريمة مع نسائه.. يقدّر مشاعرهنّ، ويرحم ضعفهنّ، ويتلطّف بهنّ، ويداعبهنّ ويطيّب خاطرهنّ، ويُحْسن معاملتهنّ، ويعدل بينهنّ، ويرين ما هُو عليه من الهَدي في كلّ شأن، فيقتدين به، ويعلّمن الناس، وينقلن ما يشهدن إليهم..

هذه الحُجُراتُ الشريْفة المبَاركة بلسمٌ لقلوب الفقراء، ووخزةُ ضميرٍ لقلوبِ الأغنياء.. لا يزالُ يجد فيها الأوّلون عزاءهم عن شظف الحياة، فيصبرون على لأوائها، ويتجلّدون على شدائدها، ويرونها بينهُم وبين نبيّهم المصطفى صلى الله عليه وسلم حبلاً موصولاً، ونسباً وثيقاً، تمسح جِراحَهم، وتسكب الطمأنينةَ والرضا في قلوبهم.. ولا يزالُ يجد فيها الآخرون ما يشعرُهم بضعف نفوسهم، ودنوّ مطالبهم، وما يحثّهم على السموّ عن حطام الدنيا الزائف الزائل، وأنّها ليست في موازين السماء بشيء مذكور، إن لم تتّصل بحبل الله وسببه، فتكون في خدمة دينه، وابتغاء مرضاته، ولو كان في حيازتها، وجمعها لذاتها ما يرفع الإنسان عند الله أو يعزّه لكان أولى الناس بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته الأطهار، وصحابته الكرام ..

هذه الحجرات كانت دَار الفتوى والقضاء، يَستقبل فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه الكرام رجالاً ونساءً، في الليلِ والنهارِ، يسْتفتونه في شئوْن ديْنهم، ويَستشيرونه في أمور دنياهم، ويحتكمون إليه، فيستمع إليهم، ويعطيهم من وقته وفكره، وهديه وتوجيهه، ويقضي بينهم بالحقّ، وما يرضي الله..

كانت دارَ المَودّة والرحمةِ، والتعليم للأمّة: كيْف يكون تعامل الأزواج مع نسائهم، وكيْف يَقوم بنَاء الأسرةِ في دينِ الله وشريعته: تواضعٌ وخفضُ جناحٍ، وخدمةٌ في كلّ شأْنٍ، ورحمةٌ إنسانيّةٌ وارفةُ الظلالِ، وبرٌّ وصفاءٌ، وأنسٌ وتلطّفٌ، ومداعبةٌ ساميةٌ، وأداءٌ للحقوقِ، وعدلٌ بين الزوجات، وحفظٌ لحُرمات الله..

وكانت مدْرسة ترْبويّة، تَخرّجت فيهَا أمّهات المؤمنينَ رضي الله تعالى عنهنّ على يَد المصْطفَى صَلواتُ الله عليه وسلامُه، بعد أن عايشنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في كلّ شأنٍ، وتلقّيْن عنه في كلّ جانب من جوانب الحياة، ونقلْن ذلك إلى الأمّة بكلّ وعيٍ وأمانة، ودقّة وحصافةٍ..

وكانت محرابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلِ، وموطنَ خلوته مع ربّه.. يقوْمُ بين يديه طويلاً، ويتبتّل إليه تبتيلاً، ويطيْل القيَام والركوْع، والبكاءَ والخشُوع، ويُناجي ربّه، فترقّ لنجواه نساؤه الطاهرات، ويشْفقنَ لحاله، ويسألنهُ التخفيْف عَن نفْسه، فقد غفر الله له ما تقدّم وما تأخّر من ذنبه، فيَقول لهُنّ: (أَفَلا أكونُ عبداً شكوراً.!).

هذه الحُجُراتُ الشريْفة المبَاركة تُباهي بأهلِ الأرضِ أهلَ السماءِ، وتجعلُ الملائكة الأطهار تغبطُ المحبّين الأصفياء.. فأين أنت أيّها الواقف أمام هذه الحُجُراتِ من تلك الأمنيات.؟!

إنّها لجسدِ الأمّةِ القلبُ النابضُ في كلّ زمان ومكان، والنبع الثرّ الفيّاض بالإيمان والإحسان، والحبّ والحنان، إنّها الدوحةُ الباسقةُ الطيّبة، التي تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها..

أخي المسلم ! أخي المحبّ ! إذا وقفت عند هذه الحُجُراتِ، فتذكّر ما قدّمته هذه الحُجُراتُ البعيدة عن زخرف الدنيا وزينتها للإنسانيّة مِن خيرٍ وهدى، وما ضمّه ثراها الطيّب المبارك، مِن جسدِ أطهر مخلوق عرف الله تعالى حقّ المعرفة، وعبده أخْلص العبادة، وبلّغ رسالة ربّه، واجتهد في نصح أمّته، وجاهَد في الله أعظم الجهاد حتّى أتاه اليقين.. وتجرّد في عبوديّته لله عن كلّ بهرج من بهارج الدنيا وزينتها..

ضمّ ثراها هذا الجسد المبارك، فلا عجب أن كان أشرفَ بقعةٍ في الوجودِ وأكرمَها، وأسناها وأزكاها..

تذكّر ذلك أخي المسلم ! واعقد بها صلتك الصادقة المخلَصة، لتكون معها على مثل عهد الجنديّ مع قائده، وحماسة المحبّ لحبيبه، ووفاء العبد لسيّده، ولتكن خفقات قلبك صفاءً للودّ وتأجيجاً، وتجديداً للعهد وتأبيداً: {... وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[الفتح:10].

غُضّ أخي المؤمن طرفك، وأسبلْ من عَينيك دمعةَ حسرَةٍ وندم، وحبٍّ وحنينٍ، وعِش بقلبِكَ تلكَ الذكريات، فربّما قرّب الحبّ والشوق من كان بعيد الدار، كثير الأوزار، مشتّت الأفكار، وربّما كانَ الحبّ والشوق نِعمَ العزاء، لمَن فاته وردُ الصفَاءِ وكريم اللقاء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين