فيتامين

بين الدنيا..و"الدار الآخرة"

تمرّ بنا الأيام والليالي، يومًا بعد يوم، وليلة بعد ليلة؛ يبلى الجديد، ويقرُب البعيد، ولنا في الدنيا كلَّ يوم شأن جديد. ساعات تمرّ، وآجال لا تتكرر، هذا مقبل، وذاك مُدبِر، وكلّنا إلى الله تعالى سائر..

كلّ واحد فينا يجري بعمره إلى غاية، تنتهي إليها مُدة أجَلِه، وتنطوي عليها صحيفة عمله، فما المطلوب منا، إذا ما أصابنا مرض "التعلق بالدنيا"؟!

المطلوب أولًا، وقبل أن نأخذ جرعة مناعة للمكثرين منها، أن نذكّر بحقيقتها؛ فالدنيا سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تَعِدُ بالبقاء، ثم تُخلف في الوفاء، متاعها عناء، ونعيمها ابتلاء. العمرُ فيها قصير، والخطر المحدق كبير، فإلى أين المصير؟! ما هو الحل؟ و إلى أين المرتحل؟

إننا تعترينا حمى الدنيا، بأمراضها، وظلم أهلها، وطغيان عُباّدها، فما الذي يقوّينا؟ ما الذي يصبّرنا؟ ما الذي يثبّتنا؟ وكيف نرتّب الانتقال من دار إلى دار؟ بم نستعد؟ وأي الأحوال علينا سيستجد؟ أي حمية نتبع؟ وما هي الفيتامينات التي تنفع؟

آه من الدنيا! كم من مستقبل يوماً ليس يستكمله، وكم من منتظر غدًا، وليس من أجَلِه.. ظالمًا كان أم مظلومًا.. شديدًا كان أم مريضًا.. قويًا كان أم مستضعفًا.. حاكمًا كان أم محكومًا... مالكًا كان أم مستأجِرًا.. ثم ماذا؟ ثم ماذا؟!

فيتاميننا اليوم هو المعالج الأقوى، لأخطر أمراض تصيب القلب: القسوة والإصرار والاغترار..

إنه فيتامين "الدار الآخرة" .. فمِن دار المفرّ إلى دار المقرّ، ومن دار الزّاد إلى دار المعاد..

فحيّ على جنّات عدن فإنها=منازلك الألى وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل=ترى نعود إلى أوطاننا ونُسلّمُ

جلست إمرأة تبكي أمام سرير زوجها، وهو يعاني سكرات الموت، فسألها: لمَ البكاء؟ قالت: أبكي عليك، فقال لها: أما إني قد بكيت سرًا، وعملت جهرًا لهذا اليوم أربعين سنة.

هكذا هي.. وهكذا نحن..

نؤمّل أن نحيا وفي كل ساعة=تمرّ بنا الموتى تهزُّ نعوشها

وهل نحن إلا مثلهم غير أن لنا=بقايا ليال في الزمان نعيشها

إننا مستوطِنون في غير أوطاننا.. مستعمَرون في مستعمرات على جناح بعوضة، نزلاء لا مقيمين، مستهلَكين لا مستهلِكين، غرباء أو عابري سبيل.. هكذا هي.. وهكذا نحن..

عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل من الأنصار، فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله، أيّ المؤمنين أفضل؟ فقال: (أحسنهم خلقًا)، قال: فأيُّ المؤمنين أكيس؟ قال: (أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس- أي العقلاء)..

ومن وصايا الحسن البصري رحمه الله: يا ابن آدم، إنّما أنت بين راحلتين توضعانك، يوضعك الليل إلى النهار، ويوضعك النهار إلى الليل، حتى يسلماك إلى الآخرة، فمن أعظم خطرًا منك يا ابن آدم؟!).

من أعظم خطرًا منك، إن لم تذكر الدار الآخرة، فتنشط في دنياك؟!

من أعظم خطرًا منك، إن أسرفت في تأثيث غرفة الفندق، التي تنزل فيها مؤقتًا، ونسيت قصرك المشيد، الذي ينتظرك بالخلود؟!

من أعظم خطرًا منك، إن لم تتدبّر، وتتفكر، وتقرّر: ﴿... فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)﴾ [البقرة]؟!

إن فيتامين "الدار الآخرة" هو المضاد الفعّال للحماية من الدنيا، إذا انتشر سمها في الأبدان.. وإن التزود منه هو من أجلّ الأسباب لزيادة الإيمان في القلوب، واستقامة الجوارح، وإمساك النفس، والصبر على مقادير علّام الغيوب..

وقد صدق الإمام علي، في نصيحته لابنه الحسين، رضي الله عنهما، إذ أوصاه مذكرًا: "يا بنيّ، ما شرٌّ بعده الجنة بِشرّ، ولا خيرٌ بعده النار بخير، وكلّ نعيم دون الجنة محقور، وكلّ بلاء دون النار عافية".

ميزان دقيق، وذكاء في التعامل مع هذا الفيتامين، يلزمنا من جرعاته الاستعداد، وضبط العدّاد، وحسن الانتظار، لاستلام مفتاح دار القرار، والمفتاح هو الموت، ومن يخشى الفوت، سيستعد حتماً للموت.

رُوي أن ملك الموت دخل على داود عليه السلام، فقال له داوود: من أنت؟ أجاب: أنا من لا يهاب الملوك، ولا يُمنع من دخول القصور. قال: فإذن أنت ملك الموت؟ قال: نعم. قال داود: أتيتني، ولم أستعد للموت بعد! قال ملك الموت: أين فلان قريبك؟ وأين فلان جارك؟ وأين فلان صديقك؟ قال: ماتوا.. فقال له ملك الموت: أما كان لك في هؤلاء كلهم عبرة؟!

إخوتي أخواتي.. إن الله تعالى يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا لمن يحب. فلا تجعلوا قوتكم في الدنيا حجة عليكم في الآخرة، ولا تجعلوا إقبالها عليكم، معيارًا لرضى خالقكم، واعلموا أن الدنيا لئيمة، إذا تمكّنت من قلب أحدكم، لم تترك مكانًا للآخرة، بينما الآخرة كريمة، إذا كانت في قلب أحدكم، تركت نصيبًا للدنيا..

والفطنة تظهر في كيفية التعاطي مع هذا المقوي:

فإن لله عبادًا فُطنًا=استخدموا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلمّا=علموا أنها ليست لحيّ وطنا

جعلوها لُجّة واستعملوا=صالح الأعمال فيها سُفُنا

اللهم فاجعل الآخرة همّنا، واجمع علينا شملنا، واجعل غنانا في قلوبنا، وآتنا من الدنيا ما كتبت لنا، بعزة الأنفس لا بِذلّها، وأكرمنا بفضلك ما أحييتنا، واغمرنا بعفوك إذا توفّيتنا، وهوّن علينا انتقالنا من دار الفناء إلى دار البقاء، يا رب الأرض والسماء، واجعل نهاية أيامنا هنا، بداية حياتنا عندك هناك، بآجال مديدة، وإقامة سعيدة، حيث لا ما يكدر البال، ولا ما يعكر الحال، يا كريم يا متعال..

وبهذا نكون قد جمعنا المقويات اللازمة لنا لتحسين الأحوال، دون أن نحمل همّ الدولار، أو ارتفاع الأسعار، ودون أن نخاف من انقطاع المواد الأساسية، أو احتكار الاحتياجات الضرورية..

فيتامينات لا تعمل على الكهرباء، ولا تحتاج إلى اتصال بالانترنت، لا يؤثر عليها غلاء البنزين، ولا تهريب المازوت، هي في صيدلية بيوتنا، شاء من شاء، وأبى من أبى، والله المستعان، وهو الموفق إلى ما فيه صلاح البال، وتغيير الأحوال..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين