أثر محمد صلوات الله وسلامه عليه في العالم

 

أيها السادة:

مقياس نهوض الأمة ودليل رُقيُّها هو معرفة قدر عظامها وميزان دبيب الحياة في شرايينها. هو الاشادة بذكر أبطالها، تقديساً لهؤلاء العظماء، وفخراً ببطولة هؤلاء البواسل الذين خلَّد لهم التاريخ في صحائف العظمة والمجد أعمالهم الجليلة وسجل أسماءهم في أسفار الشرف والسؤدد بمداد من النور. فكانت حياتهم مثلاً أعلى لأممهم تطلب منهم التأسي بهم والعمل على سيرهم وتتبع آثارهم. وفي الحق أن حياة العظماء أعظم درس يلقى من سماء الماضي على أذهان الجيل الحاضر ليبعثه على النهوض كما نهض الأسلاف وتبوأوا عرش الصدارة والرقي وخطوا بأممهم خطوات واسعة في سبيل سعادة الانسانيِّة الصالحة.

وليس في أمم العالم أمَّة أعظم ثروة في ميدان العظمة وساحة البطولة من الأمَّة الإسلاميَّة، ومَن أعظم مِنْ محمد صلوات الله عليه وهو المؤسس الأعظم لهذه الأمة الكريمة. أجل، لا أحد أعظم قدراً ولا أجلُّ أثراً في العالم شرقه وغربه سمائه وأرضه من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن قلماً يطمح أن يصوغ عبارة مهما بلغت من الغلو والاغراق معبرة عن عظمة محمد لجدير بأن يصطدم بصخرة العجز والقصور. و إن لساناً يحاول أن يصور عظمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حريٌّ أن لا يتحرك بين شدقيه إلا بالوهن والضعف. بيد أنَّ ذلك لا يمنعنا أن نختلس صورة مصغرة من أثر هذا النبي الكريم في العالم تمثل شيئاً من عظمته الخالدة ليزداد الذين آمنوا إيماناً ولتطمئن إلى الحقيقة الناصعة قلوب المرضى بحمى الشك والاضطراب.

أيها السادة: في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد أشرقت في بطحاء مكة شمس محمد بن عبد الله القرشي ونشأ وترعرع في عز نفسي وسؤدد قومي فما أن شبَّ حتى ظهرت عليه علائم العبقرية ودلائل البطولة وأمارات الكمال الخَلقي والخُلقي فقد كان زمن شبوبيته جليلاً مهاباً وقد دعي بالأمين منذ نعومة أظفاره وعرف برجاحة العقل وتناهي الذكاء الفطري وذرابة اللسان وقوة البيان فكان فذاً بين قومه وعشيرته وهم سنام العرب وذروة عدنان وإنَّ نظرة واحدة على حادث بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود وحكمة الفصل في ذلك الحادث الخطير تكفي دليلاً قاطعاً على أنَّ محمداً صلوات الله عليه شبَّ حكيماً بطبعه ولقد أوتي فطرة إنسانية خالصة سامية أبت عليه أن يغمس قلبه الطاهر في رجس الوثنية وعبادة الأصنام فكانت بغيضة لديه وكان نفوراً عنها وما باشر شيئاً من عادات قومه إلا ما كان منها محبوباً جميلاً وإنسانياً سامياً فلقد كان أجود من الريح المرسلة. ولما وصل إلى الدرجة الأولى من العقد الرابع لحياته المباركة كان هو الضالة التي تنشدها الإنسانيَّة والكمال المطلق الذي تبحث عنه الفضيلة لتتقمص هيكله النوراني هناك نادى منادي السعادة من ماء المنظمة والجلال: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124].

بعث محمد صلوات الله عليه إلى العالم أجمع بشيراً ونذيراً وتحمَّل من أمر الرسالة ما تنوء تحته الجبال الراسيات وأنَّى للرواسي قوة عزم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصبره وثباته وإيمانه الراسخ وحزمه المتين.

وقد تجلَّى ذلك في مبدأ أمره يوم أن اشتد الكرب على عمومته وهم في شِعب أبي طالب وقد راوده صنو أبيه على ترك هذا الأمر فقال في عزم يفل الحديد وثبات قوي لا يتزعزع (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يمين والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) هكذا صمم محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نشر دعوته والعالم يومئذ يموج بالاضطراب الوحشي وتسومه البربرية الدنيئة الخسف والعذاب الأليم، فآسيا تنوه من أثقال تعاليم البرهمية والبوذية والزردشتية والكونفشيوسية وتمزق أحشاءها الحروب الداخلية والخارجيَّة، وأفريقيا قد فتك بها الرومان وقتلوا الحركة العلمية فيها فأصبحت جثة هامدة لا حس بها ولا حراك، وأوربا تتغلغل فيها الهمجية فبينما هي تعاني في الجنوب حرباً ضروسا بين أولاد (كلوفيس) والشعب الآري إذ هي تقطع أوصالها حرب السكسونيين مع (الأنجلو) في الشمال، وهذا الجزء الشمالي الذي يمد العالم الآن بحضارته كان أوسع مجالاً للوحشية الظالمة، وإن تكن هي مقر دولة الرومان العظيمة ولكنها كانت في ساعة النزع ودور التلاشي والانحلال فما أشدَّ حاجة العالم إلى معلم و مرشد يرشده إلى طريق مستقيم وسبيل سوي.

صدع محمد صلوات الله عليه بأمر ربه بين العرب وهم أمة بدويَّة قويَّة الشكيمة صعبة المراس شديدة الأخلاق غليظة الطباع تملؤها الحمية الجاهلية ويحوطها الجبروت والكبرياء، و يحرك الحرب العوان فيها بيت من الشعر فكانوا متقاطعين متدابرين منابذين لا تجمعهم جامعة ولا تربطهم رابطة ولهم أخلاق وعادات تشمئز منها الإنسانية يئدون البنات و ينتهكون الحرمات و يدينون بالوثنية وعبادة الأصنام وهم أبعد الأمم عن الحياة الاجتماعية والسياسية فوجه محمد صلوات الله عليه همته إلى إصلاح قومه ليكّون من العرب أمة نستطيع أن تمدَّ العالم بالعلوم والمعارف والتشريع والسياسة والحكمة.

وفي أقل من ربع قرن هيأ دولة عظيمة ألقت على العالم دروس الحضارة الصحيحة والمدنيَّة القويمة فما دنا انتقال محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى شهد بعينيه مائة ألف تلميذ له على ظهر الأرض كل واحد منهم يصلح أن يكون أستاذ أمَّة بأسرها وقد خاطبهم بتلك الكلمة الخالدة (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي). وقد أجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نشر تعاليمه الإنسانيَّة وشريعته الإسلامية في الخافقين فهبوا يحملون في يمينهم كتاب الله الكريم الذي يقول: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256] وفي يسارهم سمهرياً لإبادة الطغاة المتجبرين. وقد قرر القرآن بوضوح مبدأ المساواة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13] وفوق ذلك هو دستور عام جامع لأحكام العبادات اعتقاديَّة وعمليَّة، والمعاملات جنائية ومدنية وآداب الاجتماع وشؤن السياسية، كما يشهد بذاك العالم (جيبون) إذ يقول: (القرآن مسلم به من حدود الإقيانوس الأتلانتيكي إلى نهر الجانج بأنه الدستور الأساسي ليس فقط لأصول الدين بل للأحكام الجنائية والمدنية وللشرائع التي عليها مدار نظام الحياة للنوع الإنساني وترتيب شؤونه) وما هي الحوادث والاحوال الزمنية قد برهنت على ما للإسلام من صفات القابلية للعلم والترقي والحضارة حيث قامت في العالم حضارات قاهرة باقرة مثل حضارة دار السلام (بغداد) وقرطبة.

ومبدأ الحرية والمساواة الذي وضعه محمد صلوات الله عليه في عصور كان العالم فيها ملبداً بغيوم الجهالات هو العامل القوي الذي جعل الأمم المظلومة - وما أكثرها إذ ذاك تنهال على الدخول في حظيرة الإسلام انهيال السيل على الوادي الخصيب وقد اعترف علماء أوربا بسمو هذا المبدأ فقدسوا محمداً أشادوا بعظمته، يقول القسيس لوازون الفرنسي (ولقد كانت نظامات الدين الإسلامي ما قررها نبيهم وجرى عليها خلفاؤه الراشدون من بعده نظامات جمهورية أو بعبارة أخرى أخويَّة دينيَّة اجتماعيَّة خالية من كل كبرياء وزخرف، وكان الحكم بالدستور الذي أوحى به المولى إلى نبيه محمد (عليه السلام) حيث لم يكن الخليفة الا عبد الله وخادم المسلمين أجمعين، و إن عظمة الإسلام وفخامته تتحصران في هذه النظرية المؤسسة على قواعد الحرية التي اختطها النبي محمد (عليه السلام) وعمل بها ليكون قدوة لمن بعده).

أيها السادة، لقد كانت النواميس السامية التي احتوى عليها القرآن الكريم والسنة المطهرة مغناطيس يجذب قلوب الأمم، فما هي إلا قومة حتى ضربت جيوش الإسلام الظافرة في أطراف آسيا ونزلت بقلبها وخطت منها إلى أفريقيا وبثت في أرجانها تعاليم القرآن تحوطها الحضارة الإسلامية الراقية وقد رتعت آسيا وافريقيا في سعادة هذه التعاليم التي أنقذتهما من خرافات الديانات المستحدثة ومن ظل المتوحشين. ولم يقف الإسلام عند هذا الحد بل خطا خطوة جريئة إلى قارة أوربا فكوَّن في شبه جزيرة ايبريا (بلاد الأندلس) مدنيَّة وحضارة هما أساس ما ترتع في بحبوحته أوربا وتفخر به علينا الآن وهذا يعترف به المنصفون من علمائها، قال المسيو (سديو) أحد أعضاء جمعية العلماء الفرنسية في تاريخه:

(وبعد ظهور النبي الذي جمع قبائل العرب أمَّة واحدة تقصد مقصداً واحداً ظهرت للعيان أمَّة كبيرة مدت جناح ملكها من نهر التاج في اسبانيا إلى نهر الكنج في الهند، ورفعت على منار الإشادة أعلام المتدن في أقطار الأرض أيام كانت أوربا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة.

كانت هذه الأمة (العربية الإسلامية) مختصة بالعلوم من بين سائر الأمم وانقشعت بسببهم سحائب البربرية التي امتدت على أوربا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين) ويقول العلامة (همبلد): (إن العرب خلقهم الله ليكونوا واسطة بين الأمم وبين العلوم وأسباب الدين ونحن نعترف بأنهم أساتذتنا ومعلمونا).

أيها السادة: في ثلاث وعشرين حجة استطاع محمد صلوات الله عليه أن ينفخ في العالم روحاً جديدة غيَّرت وجه التاريخ الإنساني وأخرجت العالم من الظلمات إلى النور ومن الذل إلى العز ومن الوحشية إلى المدنية ومن الهمجية إلى الحضارة.

فهل بعد ذلك عظمة؟ وهل بقيت في سجلات الإنسانية عظمة فرق عظمة محمد! كلا وألف كلا! و إن هذه العظمة هي التي أوحت إلى رجل فرنسا الفيلسوف فلتير كلمته الخالصة وقد ذكر عنده لوثير وهو من تعملون قدره في عالم الغرب فقال: (إنه لا يستحق أن يكون صانع أحذية عند محمد).

وقال أحد علماء الانكليز بعد أن ذكر شيئاً من حياة المصطفى: (وهكذا انتهت حياة الرجل الوحيد في تاريخ العالم الذي جمع في آن واحد بين نبي ومتشرع ومؤسس لدين و مملكة)

ألا إن محمداً عظيم بكل ما في العظمة الحقَّة من معنى فهو خاتم المرسلين وأستاذ العالم أجمع، قال الفيلسوف (كارلیل): (و ظني أنه لو أتيح للعرب بدل محمد قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه لما كان مصيباً من طاعتهم مقدار ما ناله محمد في ثوبه المرقع بيده. فكذلك تكون العظمة و هكذا تكون الأبطال).

له همم لا منتهى لكبارها=وهمته الصغرى أجل من الدهر

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة الهداية الإسلامية المجلد الأول، جمادى الأولى 1348 - الجزء 12

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين