نماذج من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم (3)

 

بابُ الدعاءِ بابٌ رحبٌ عجيبٌ من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، إنّه أعظم أبواب العبوديّة لله تعالى، إذ يجمع بين أدب العبوديّة مع الله تعالى، الذي لا يدانيه أدب ولا يساميه، والتعبير عن عظمة الله وكبريائه، وعزّته وجلاله، وبين ذلّ العبوديّة لله، والاعتراف بالفقر والعجز، والضعف والتقصير، والافتقار الشديد إلى رحمة الله وعفوه في كلّ شأن، مع صدق التوجّه إلى الآخرة، وتعلّق القلب بها، والرغبة فيها، واجتماع المعاني العظيمة في كلمات قليلة.

واقرأ هذين الدعاءين الضارعين من أدعية النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتدبّرهما، تجدهما من أوضح الدلائل على نبوّته صلى الله عليه وسلم، وأنّه ممدودٌ بوحي الله تعالى في كلّ حرف ينطق به:

دُعَاءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الطّائِفِ: (اللّهُمّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبّ المُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبّي، إلى مَنْ تَكِلُنِي، إلى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَوْ إلى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي، إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيّ غَضَبٌ فَلا أُبَالِي، غَيْرَ أَنّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَنْ يَحِلّ عَلَيّ غَضَبُك، أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلا حَوْلَ وَلا قُوّةَ إلاّ بِكَ) [سيرة ابن هشام 1/420/].

ومِن دُعَاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في عرفة: عن ابن عباس قال: " كَانَ ممّا دَعَا به النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَشيّةَ عَرفةَ: « اللهمَّ إنّكَ تَرى مَكَاني، وَتَسمَعُ كَلامِي، وَتَعلمُ سِرّي وَعَلانيتي، لا يخفَى عليكَ شَيءٌ مِن أمري، أنا البائِسُ الفَقيرُ، المُستغيثُ المُستجيرُ، الوَجِلُ المُشفِقُ، المُقرُّ المُعترِفُ بِذنبِه، أسألُكَ مَسألةَ المِسكينِ، وأبتهِلُ إليكَ ابتهالَ المُذنِبِ الذليلِ، وأدعوكَ دُعَاءَ الخائِفِ الضريرِ، مَن خَضعَت لكَ رَقبتُه، وذَلّ جَسدُه، ورَغِمَ أنفُه، اللهمَّ لا تجعلني بدُعائك شَقيّاً، وَكُن بي رَءُوفاً رَحيماً، يا خَيرَ المَسئولِينَ، ويا خَيرَ المُعطِينَ » [المعجم الصغير للطبراني 2/307/].

لقد فتحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم للإنسانيّة بالدعاء آفاقاً من العبوديّة، لا تخطر على قلب بشر، وعلّمنا معانيَ إيمانيّة، وحقائقَ غيبيّة، وأسرَاراً منْ خفايا النفس البشريّة ما كنّا لنعلمها لولا أن يسّرَها الله تعالى بالوحي إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم، بتلك الأدعية والأذكار الجامعة المانعة..

عَلَى أنّ العبوديّة لله في الدعاء لم تلزم المؤمنين ألفاظاً محدّدة إلاّ في العبادات المخصوصة، إنّها تفتح للمؤمنين آفاقاً من الاجتهاد في مناجاة الله، وسؤاله والتذلّل بين يديه بأيّ لغة كانت، حتّى بلغة الإشارة، فالمُعوّلُ على صدق القلوب، وإنابتها إلى الله، إنّها تعلّمهم الإبداع في الدعاء لا الابتداع.

وكَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ) [رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار برقم /4922/ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه].

وكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي صَلاتِهِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْباً سَلِيماً، وَلِسَاناً صَادِقاً، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ) [رواه النسائيّ في كتاب السهو برقم /1287/ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه].

(سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: " اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لا إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّ أَنْتَ " قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ، وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ) [رواه البخاريّ في كتاب الدعوات برقم /5831/ عَنْ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رضي الله عنه].

(اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي، وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ) [رواه الترمذي في كتاب الصلاة برقم /426/، عَنْ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ، فَرَأَى عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا، وَاخْتَارَ الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ المُبَارَكِ وَإِسْحَقُ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ لا يَقْنُتُ إِلاّ فِي النِّصْفِ الآخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانَ يَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى هَذَا، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ].

(اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا) [رواه الترمذي في كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم /3424/ عَنْ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ].

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الطَّاهِرِ الطَّيِّبِ المُبَارَكِ الأَحَبِّ إِلَيْكَ، الَّذِي إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ، وَإِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ، وَإِذَا اسْتُرْحِمْتَ بِهِ رَحِمْتَ، وَإِذَا اسْتُفْرِجَتَ بِهِ فَرَّجْتَ، قَالَتْ: وَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا عَائِشَةُ هَلْ عَلِمْتِ أَنَّ اللهَ قَدْ دَلَّنِي عَلَى الاسْمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَعَلِّمْنِيهِ؟ قَالَ: إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لَكِ يَا عَائِشَةُ، قَالَتْ: فَتَنَحَّيْتُ، وَجَلَسْتُ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ، فَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِيهِ؟ قَالَ: إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لَكِ يَا عَائِشَةُ أَنْ أُعَلِّمَكِ، إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لَكِ أَنْ تَسْأَلِينَ بِهِ شَيْئاً مِنْ الدُّنْيَا، قَالَتْ: فَقُمْتُ فَتَوَضَّأْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قُلْتُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْعُوكَ اللهَ، وَأَدْعُوكَ الرَّحْمَنَ، وَأَدْعُوكَ الْبَرَّ الرَّحِيمَ، وَأَدْعُوكَ بِأَسْمَائِكَ الحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، أَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي "، قَالَتْ: فَاسْتَضْحَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّهُ لَفِي الأَسْمَاءِ الَّتِي دَعَوْتِ بِهَا) [رواه ابن ماجة في كتاب الدعاء برقم /3849/].

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحلقة السابقة هـــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين