رجال ومواقف : أبو طلحة الأنصاري.. ينفر ثقالاً

كان يقرأ في كتابِ الله عز وجل حينَ استوقفَه قولُه تعالى في سورةِ براءة: "انفروا خِفافاً وثِقالاً"؛ فإذا به يهتفُ بأبنائه قائلاً: "لا أرى ربَّنا إلا يستنفِرُنا شباباً وشيوخاً.. يا بَنِيَّ جهِّزوني، جهِّزوني".

والتفتَ الأبناءُ ينظرون إلى بعضِهم، وقد عقدت الدهشةُ ألسِنتَهم، وامتلكَهم عجَبٌ وإعجاب.. أما العجبُ فمِن هذا الوالد الذي يحملُ على كتفيه سنواتٍ طوالاً قضاها في جهادٍ دائبٍ وحركةٍ لا تنقطع، ثم هو يريدُ اليومَ أن يجهزوه للخروجِ بعدَ أن رأى أنّه لا عذرَ له.. وأما الإعجابُ فبنفسِه التي لا تزال تتقِدُ حماسةً وحميّةً، وقلبِه الذي لا يزال عامِراً بالحيوية والبطولة، وروحِه التي لا تزالُ تسمو وتعلو، وإيمانه الذي لا يرضى له القعودَ والكسل.

ولو أنَّ الرجلَ ظلَّ حيث هو في هدوءٍ ودَعة، يعبُد الله عز وجل مُخلِصاً له الدين، مُخبِتاً مُنِيباً إليه لَما كان موضِعَ لومِ أحدٍ قط، ذلك أنَّه قد امتدّ به العمر، وتطاولت به الأيام ثم إنه غزا في سبيل الله فأبلى أحسنَ البلاء، طَوالَ مدةٍ ليست بالقصيرة.. لقد غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، وغزا مع الخليفة الصدّيق حتى مات، وغزا مع الخليفة عمر حتى مات، وإذن فإنَّ عُذرَهُ بَيِّنٌ، ليس بحاجةٍ أن يتَقَيَّدَ له الشواهد، فالناس تدري مِن أمره، وتعلمُ من سيرته، وتعرفُ من بطولته، ما يقومُ دليلاً عند ما لا يُرَدُّ؛ أنَّ الرجلَ معذورٌ عن الخروج.. فهو كبيرٌ في السِّن.. وهو غزا وغزا وأبلى.. ثم إنَّ له فِتيةً آمنوا وصَدَّقوا يغزونَ ويجاهدون.

لكنَّ الرجل الذي ملأه الإسلام بالبطولة، وشَحَنه الإيمانُ بالفِداء.. وأوقَد فيهِ كتاب الله تعالى حُبَّ الشهادةِ كان قد توقَّفَ عندَ قولِ الله عز وجل: "انْفِرُوا خِفَافاً وثِقَالاً"؛ فرأى أن لا عُذرَ له قط، فهو إما خفيفٌ يقدرُ على الحركة والسفر والجهاد، وإما ثقيلٌ يُتعِبُهُ ذلك ويَؤوده، وهو في الحالينِ مُطالبٌ أن ينفر. لذا سارعَ يقول: "لا أرى ربَّنا إلا يستنفِرُنا شباباً وشيوخاً.. يا بَنِيَّ جهِّزوني، جهِّزوني".

"يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني"؛ قولةٌ تكشِف عن عُمقِ الإحساسِ بالمسؤوليةِ التي أوقدَها الإسلامُ في قلوبِ أتباعه. قولةٌ تكشف عن دوحِ الجِدِّ العميق في نفوس أولئك الرجال الذين صاغوا أكرمَ حضارةٍ عرفها الإنسان منذُ كان، قولةٌ تكشفُ عن النُّقلَةِ الشاسعةِ البعيدة التي أحدثها محمدٌ صلى الله عليه وسلم لدى ذلك الجيل القرآني الفريد الذي ربّاه فأحسنَ تربيتَه، فكانَ منه العَجَبُ العُجاب.

"يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني"؛ قالها الرجلُ لأولادهِ الذين يقفون من حولِه، بعدَ أن استوقفَه قول الله عز وجل، ورأى أنْ ليس له من الجهادِ فكاك..

وقف أولادُ الرجلِ ينظرون إليهِ وقد تملَّكَهم العجب والإعجاب، واستولت عليهم مشاعِرُ التعظيم والإكبار.

وقطعَ الصمتَ واحدٌ مِنهم يقول لوالده: "يرْحَمُكَ الله! قد غزوتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكرٍ رضي الله عنه حتى مات، ومع عمرَ رضي الله عنه حتى مات".

وسكت القائل، ورانَ على المكانِ صمتٌ جليل، والقائلُ قد أيقن، والآخرون قد أيقنوا أن الوالدَ قد اقتنعَ بتلك الحجةِ القوية، فعدل عن فكرة الخروج.. لكنَّ الرجل الذي استوقفه قول الله عز وجل، وامتلكَ عليه كلَّ إحساسه لم يقتنع بما قال ابنُه. إنه يرى نفسه مُطالَباً بالغزو.. وهل هو إلا خفيفٌ أو ثقيل؟ لذا رجعت قولتُه تصْدُرُ عنه كالضوء الساطع: "لا أرى ربَّنا إلا يستنفِرُنا شباباً وشيوخاً.. يا بَنِيَّ جهِّزوني، جهِّزوني".. وعاد الصمتُ الجليلُ يسودُ المكان.. وعاد الأبُ ينظرُ إلى أولادِه.. وعاد الأولاد إلى أبيهم ينظرون.

وكأنَّ القائلَ الأولَ قد وجدَ حُجَّةً جديدةً قوية يُلْقي بها ليقطع الصمتَ الجليل الذي طال، وكأنه فَرحَ بها واستبشر، فإذا به يقول لأبي:ه "فدَعْنا نَغْزُ عنك".. دَعْنا نَغْزُ عنك.. قَوْلَةٌ رائعة هي الأخرى تَسْتقي من المعينِ النبيل الذي استقت منه قولةُ الأب: "يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني".. إنه معينٌ واحدٌ هو الذي رَوِيَ منه الأب، ورَوِيَ منهُ الأولاد، فإذا بالجهاد، وهو تَعَبٌ وجهدٌ ومشقة، وهو غربةٌ وجوعٌ وعطش، وهو جِراحٌ وقتلٌ وموت.. يغدو أُمنِيةً حلوة عزيزة يتسابقُ القومُ من أجل الحصول عليها والفوز بها. وربما خالَ المرءُ أنَّ أبا طلحةَ اقتنعَ هذه المرةَ بحجةِ الابن القائل، ذلك أنَّ فيها غزواً وخروجاً في سبيلِ الله، وانتصاراً على نوازعِ القعودِ والإخلاد حيث الأهلُ والوطنُ والمسكن، والرزق الدارُّ الهانئ.

"يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني!".. عاد أبو طلحةَ يقولها.. وعاد الأولاد يسمعونها.. وإذ رأوا عزماً لا يلين، وهمةً لا تَنْكُل.. جهَّزوا الأب الذي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، وغزا طوالَ عهدِ الصدّيق حتى مات، وغزا طوالَ عهدِ عمرَ حتى مات. جهَّزهُ أبناؤه وخرجَ مُجاهداً في البحر، وركبَ متونَ أمواجه العالية.. ومات وهو في غَزَاتِه هذه.

وانتظر مَن في السفينة سبعة أيامٍ حتى مروا بجزيرةٍ في البحر فدفنوه فيها، وهو لم يتغير. لقد أدركَ أبو طلحة غايتَه، وكسب الميتَة التي أراد، وفاز بالرضوان العميم. رحمك الله يا أبا طلحة، وأجزلَ لك المثوبة.. كأنَّ قولتك: "يا بَنِيَّ جهِّزوني جهِّزوني".. سوطُ نَكالٍ وسخرية يُلهِب ظهور المتواكلين القاعدين.

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين