قراءة الحديث النبوي الشريف على الشيوخ ووجوهها

حضرت مجلسًا في منزل بعض العرب المنعوتين بالعلم والكرم ببلد الله الحرام ضم العلماء والباحثين في شهر محرم سنة 1443ه، جرى فيه نقاش حول القراءة السردية لكتب الحديث الشريف، فلاحَ لي تضارب في استيعابهم وجوه القراءة المختلفة والأغراض من ورائها، وتخليطهم بعضها ببعض، غير متبينين وجها من وجه، ولا مميزين نوعا من نوع، وكدت أن أنسى القصة إذ صودفت ببعض الأغمار ينال من ثقات أصحابي، ساخرا من السماع وذويه، وضاحكا على القراءة وأهلها، ولولا خوفي أن يسري الداء إلى الأصحاء لما ألقيت له بالا، ولا نمقت له مقالا.

إن العلوم والصناعات كلها تكسُّبها والبراعة فيها على وجوه مختلفة لا تخفى على الأذكياء الحاذقين، والألباء المتمكنين، وإن علم الحديث من جنس تلك العلوم والصناعات، فتحصيله أيضًا ينقسم إلى أقسام كثيرة، يمكن أن تلخص في ثلاثة: التحصيل الموسع بحثا وتحقيقا، والتحصيل المتوسط، والتقريب، وأقوم الآن بتجلية الأقسام الثلاثة لمن جهلها أو تجاهلها:

القسم الأول: أن يقرأ الطالب على شيخه كتابا من كتب الحديث أو بعضا منه، فيعنى الشيخ بالتصحيح والضبط والإتقان، مع إفاضة في الشرح وتطويل البيان، بحيث لا يترك شاردة ولا واردة في السند والمتن إلا ويأتي عليها، فيتعلم الطالب أسماء الرجال، وطبقاتهم، وعلل السند والمتن، ومعاني المفردات، والكشف عن غوامض المتون، واختلافات الفقهاء، وتسمى هذه القراءة قراءة شرح مسهب وبيان مستوفى.

إن هذا القسم يستغرق وقتا طويلا جدا، فلا يمكن أن يدرس كتاب من الأصول الستة بكامله وفق هذا المنهج، ومن ثم جرت عادة المحدثين أن يقرروا أولا على طلابهم المتون المجردة، ثم أبوابا من بعض كتب الأصول على هذا المنوال، مما يعطي الطالب فكرة واضحة عن العلم ومتعلقاته، ويدربه التدريب الكامل، وعامتهم يستدرجون في ذلك استدراجا، فيبدأون بـ(الأربعين النووية)، و(تهذيب الأخلاق)، و(رياض الصالحين)، و(بلوغ المرام)، ثم يتوسطون بـ(مشكاة المصابيح)، وينتهون بـ(جامع الترمذي)، و(سنن أبي داود)، و(صحيح مسلم)، و(صحيح البخاري) وسائر كتب الأصول.

والقسم الثاني: أن بقرأ الطالب على الشيخ الموطأ، والأصول الستة، ومسند أحمد بن حنبل، وغيرها، فيعنى الشيخ بضبط الكلمات، وشرح المشكل، والأسماء والكنى والصفات، واختلاف النسخ، مع تعليقات موجزة على أشياء في الأسانيد والمتون، وتسمى هذه القراء قراءة ضبط وإتقان.

وهذا المنهج هو الذي ظل سائدا عند المحدثين، وهو منهج متوسط، وعليه كبار المحدثين، وقد بقيت بعض هذه التعليقات تروى مع الأحاديث، وتسمى مدرجات.

ومن هذا القسم ما ورد في ترجمة الشيخ عابد السندي أنه كان يختم الكتب الستة رواية ودراية في ستة أشهر، وجاء في ترجمة مولانا فضل الرحمن الكنج مراد آبادي كما ذكر صاحبه الشيخ أحمد أبو الخير المكي أنه قرأ الصحيح على شيخه محمد إسحاق الدهلوي في بضعة عشر يوما، وذكر الحافظ محمد عبد الحي الكتاني عن نفسه أنه قرأ صحيح البخاري تدريسا بعنزة القرويين قراءة تحقيق وتدقيق في نحو خمسين مجلسا لم يدع شاذة ولا فاذة تتعلق بأبوابه ومحل الشاهد منها إلا أتى عليها مع غير ذلك من اللطائف المستجادة.

والقسم الثالث: قراءة سرد، أي أن يقرأ الطالب على الشيخ من دون تعليق من الشيخ أو شرح منه، وهذا السرد يحصل بعد أن فرغ الطالب من القسمين الأولين، وقد عرف معاني المتون، ومباحث الإسناد، فيكون السرد بمثابة مذاكرة وتكرار، وسماع الحديث من الطرق والأسانيد الجديدة.

وللسرد فوائد، منها:

1- حفظ الكتب: فلو أن أهل الحديث لم يعتنوا إلا بالأحاديث التي يستوعبونها ضبطا وشرحا على الشيوخ، لضاعت أكثر الكتب المصنفة والتي تبلغ الآلاف، ولغابت عنهم كثير من الأحاديث، فهدوا بعقولهم السليمة إلى طريقة السرد، وتيسر لهم بذلك سماع مئات الألوف من الحديث، وقراءة ما لا يحصى من الكتب والأجزاء.

2- المذاكرة: يخشى على العالم أن ينسى من مقروءاته ومسموعاته، فإذا اعتاد سرد الحديث حصلت له مذاكرة الحديث، والمذاكرة سنة معروفة، وقد كانوا يمرون في مجلس واحد على ألف حديث أو أكثر.

3- التعضيد: إن سرد الحديث يعين أهل الحديث على معرفة المتابعات والمشاهدات، قد يظن أن الحديث لم يروه من الصحابة إلا أبو هريرة رضي الله عنهم، أو لم يروه من الأئمة إلا سفيان بن عيينة، فإذا سردوا قراءة المصنفات والأجزاء عثروا بسرعة على من يشهد لأبي هريرة، ومن يتابع سفيان بن عيينة.

4- التفقه: فالحديث الواحد يذكره المصنفون في أبواب مختلفة، ويترجمون له بعناوين متنوعة، فإذا سرد الحديث انتقل ذهن الطالب من معنى إلى آخر وازداد تفقها.

5- كثرة الذكر: سرد الحديث يتضمن كثرة ذكر أسماء الله وصفاته، وتحميده وتسبيحه وتمجيده، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

6- الاتصال بالصالحين: يمر أهل الحديث خلال السرد بأسماء الصحابة رضي الله عنهم وأئمة التابعين وسائر الصالحين، فتملئ قلوبهم حبا لهم، فيتبعونهم في هديهم ودلهم وسيرتهم، ومن ثم رأينا أهل الحديث أكثر الناس اتباعا للسلف وأحسنهم صلاحا.

7- والتراحم: إذا عقد مجلس لسرد الحديث ضم الناس من قبائل شتى ولغات مختلفة وبلاد متباعدة فيتصادقون ويتحابون ويتراحمون، وهذا التراحم وحده من أكبر مقاصد الشريعة.

مذهب العلماء في سرعة القراءة:

وقد اشتهر من مذهب العلماء إباحة سرعة القراءة وجبر ما فات من سماع الكلمات والحروف بالإجازة، ذكر الحافظ ابن الصلاح وغيره أن القارئ إذا كان سريع القراءة، وكان السامع بعيدا من القارئ يعجم عليه بعض ما يقرأ أنه يغتفر ذلك، ويجوز له أن يروي ذلك الحديث، وأنه إذا كان يفهم ما يقرأ فالسماع صحيح، وينبغي أن يجبر ذلك بالإجازة، وقد روي عن الإمام اعبد الرحمن بن مهدي أنه قال: يكفيك من الحديث شمه، وهو قول غير واحد من الحفاظ.

أمثلة من السلف في سرعة القراءة:

استفاض في ترجمة الحافظ الخطيب أنه قرأ صحيح البخاري بمكة في خمسة أيام على كريمة المروزية، وسمعه الناس بقراءته، وورد في ترجمة البرهان إبراهيم ابن محمد بن إبراهيم البقاعي الحنبلي من شذرات الذهب أنه قرأ على البدر الغزي البخاري كاملا في ستة أيام، وذكر السخاوي أن شيخه الحافظ ابن حجر قرأ سنن ابن ماجة في أربعة مجالس، وصحيح مسلم في أربعة مجالس سوى مجلس الختم وذلك في نحو يومين وشيء... قال: وأسرع شيء وقع له أنه قرأ في رحلته الشامية معجم الطبراني الصغير في مجلس واحد بين الظهر والعصر وهذا أسرع ما وقع له وقال هذا الكتاب في مجلد يشتمل على نحو ألف حديث وخمسمائة حديث.

حضور الصغار الذين لم يمارسوا القسمين الأولين:

يسمح المحدثون بحضور الصغار في مجالس السرد من أجل أن تحصل لهم البركة، وأن تقوى صلتهم بالحديث، فينشأوا على محبته، ثم يحصلوه تحصيل الشرح والضبط والإتقان، وقد كان يقع في زمن الحافظ المتقن أبي الحجاج المزي أن يحضر مجلس السماع من يفهم ومن لا يفهم من الصغار والكبار، العرب والأعاجم وغيرهم، وكل هؤلاء قد كان يكتب لهم السماع بحضرته. وورد في ترجمة القاضي تقي الدين سليمان المقدسي أنه زجر في مجلسه الصبيان عن اللعب، فقال: لا تزجروهم، فإنا سمعنا مثلهم، "كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم".

هل يعتمد مثل هذا السرد في الرواية؟

إن قال قائل: كيف يعتمد مثل هذا السرد في الرواية؟ قيل له: لم تنقل الأحاديث والأخبار في القرون الأولى بهذه القراءة السريعة، وإنما حدث ذلك بعد أن دونت الصحف، وصنفت الكتب، وحفظت الأحاديث والآثار، وجمعت مضبوطة متقنة.

والأمر كما قدمنا أن السرد أحد وجوه التلقي، يأتي بعد الوجهين الأولين الذين يتناولان الضبط والتصحيح والشرح والبيان، وعامة من تلقينا الحديث عنهم سردا هم الذين اشتهروا بالطريقتين الأوليين من أمثال شيوخنا محمد يونس الجونفوري، والشيخ محمد عوامة، والشيخ نور الدين عتر، والشيخ عبد الوكيل الهاشمي، والشيخ أحمد علي السورتي، والشيخ محمد يحيى الندوي، وغيرهم.

القراء من أصحابنا:

والقراء من أصحابنا الذين سمعنا الحديث بقراءتهم عدد كبير، تمكنوا أولا من اللغة العربية نحوا وصرفا وبلاغة، وحصلوا الحديث من الوجهين الأولين، ثم أفاضوا في القراءة السردية، من أجلهم الشيخ صفوان الداوودي، والشيخ مجد بن أحمد مكي، والشيخ حامد أكرم البخاري، والشيخ أحمد عاشور، والشيخ محمد بن أبي بكر باذيب، والشيخ وائل الحنبلي، والشيخ عمر النشوقاتي، والشريف حمزة الكتاني، والباحث خالد السباعي، وجماعة.

وأسرعهم ثلاثة: الشيخ الفقيه الأصولي عبد الله التوم، والشيخ المحدث محمد زياد التكلة، والشيخ الباحث المحقق محمد بن عبد الله الشعار.

وهؤلاء كلهم يحسنون النحو واللغة، ويتجنبون الخطأ واللحن، ويصححون غيرهم إذا أخطأ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين