البحث عن السعادة

يكاد يكون "البحث عن السعادة" هو العنوان الأبرز لنشاط الإنسان المعاصر؛ حيث غدتْ السعادة "الغاية" الكامنة خلف معظم أنشطته أيا كان مجالها وأيا كان شعارها.. وهذا البحث المحموم عن السعادة هو من جهة أخرى أحد أوجه شقاء الإنسان، فهو لا يملك أقداره ولا الأحوال التي تطرأ على حياته، ولهذا تصبح الخيبات المتكررة ضربات مؤلمة لذلك القلب الذي يرنو إلى السعادة التي يحلُم بها، ثم يجدها تتسرّب من بين أصابعه دون أن يتمكّن من التقاطها..

تكمن المشكلة في ذلك التحريف لمفهوم السعادة من كونها "نتيجة" لمسار الإنسان في هذه الحياة، إلى كونها "غاية". هذا الانزياح الذي يبدو ضئيلا هو الصندوق الذي تعصف منه رياح الشقاء العاتية على روح الإنسان، ولا بد للإنسان من فتحه وإعادة ترتيبه وغلقه إلى الأبد.

ثمة كلمات مباركة أخرى ذكرها القرآن هي وليدة الإيمان، وهي بوابة السعادة الكبرى: الأمن والسكينة والطمأنينة..

يشعر الإنسان بالأمن الذي ينفي عن قلبه الخوف والجزع حين يؤمن بالله ويرضى بأحكامه ويأنس بذكره:

{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.

وتسكن نفسه حين يخشع قلبه لحقائق الإيمان:

{هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}.

ويطئمنّ قلبه بذكره سبحانه، والذكر ليس مجرّد ترديد باللسان، بل هو حضور القلب مع اللسان، ومدارج ومشاهد يسبح فيها قلب العبد فينضبط سلوكه بما يرضي ربّه جل جلاله:

{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.

ثلاث صفات حين تخالج قلب المؤمن فقد حاز سعادات العالم.. جميعها مشروط بالإيمان، والإيمان درجات وليس مجرّد تصديقٍ بوجود خالق، بل يدخل في صلبه توحيد الله بإفراده بالنسك والولاية والحكم، فيدعوه وحده ويسجد له وحده ولا يرجو الهداية من غيره ويتعلّق قلبه به وحده، ويحبّه ويواليه ويوالي عباده المؤمنين وينصرهم ويألم لألمهم ويفرح لفرحهم، ويقبل شرع الله ويرفض ما سواه ويقيمه على قدر استطاعته. ويزداد هذا الإيمان بالإنابة والإخبات والذكر والتلاوة وغيرها من مراقي العبادة.

من أراد السعادة لا يلتفت إليها، بل يلتفت إلى حقيقة وجوده في هذه الدنيا وغاية هذا الوجود ومصيره بعد الممات، ويتذكّر الألم الذي رافقه منذ ولادته وبكاءه العالي الذي يومئ إليه بحقيقة هذه الحياة الدنيا وأنها دار فناء، كل لهاث فيها خلف السعادة هو لهاث خلف سراب.. ثم يعتصم بالحقيقة الثابتة الوحيدة في هذا العالم، وهي أنّ له خالقا كريما رحيما، خلقه ليبلوه بالعبادة، وأنزل له القرآن هدى ورحمة ونورا وشفاء لقلبه.

من أراد السعادة جعل شعار قلبه وطبيب آلامه قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} كلما ألمّ به حزن وتحسّر لفقدان السعادة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين