لا شيء يعدل في هذا الوجود أبًا

أيها الإخوة :

نفتتح حديثنا اليوم بقصة طريفة ... وهي على طولها لطيفة وظريفة... فأعيروني أسماعكم لها ، واصبروا عليَّ فيها ، ودققوا في أحداثها ... فإنها معجبة ... ومطربة ...

وقبل أن أشنف بها آذانكم ... أود التنبيه على أنها قصة ثابتة ... رواها الأثبات من العلماء كابن حجر في الإصابة ... وابن الأثير في أسد الغابة ... والصفدي في الوافي بالوفيات ... وغيرهم ...

وإنما وجب التنبيه على هذا لأن بعض الشباب إذا سمع خبراً من السلف الصالح مشوقاً رده على أعقابه، وحكم باختلاقه، وأنه من الأخبار الموضوعة، مع أن العجائب من حوله مزروعة، والغرائب في الكون من حوله موجودة ومسموعة ، إلا أن كل قديم – لديه - ينبغي أن يُدرس ، وكل ما نقل لنا عن السلف الصالح ينبغي أن يوزن بميزان العلم .. ولا حرج في هذا ... لكن ليس كل ما تسمعه أيها الشاب ضعيفاً ... وليس كل مشوق مردوداً .

تروي كتب الحديث والأخبار أن صحابياً اسمه أمية بن الأشكر الكناني كان له ولد وحيد اسمه كلاب، لقي كلاب هذا ذَات يَوْم طَلْحَة وَالزُّبَيْر فَسَأَلَهُمَا: أَي الْأَعْمَال أفضل؟.

فَقَالَا: الْجِهَاد.

فَطلب كلاب من الخليفة عمرَ رَضِي الله عَنهُ أن يجاهد في سبيل الله ، فأغزاه عمر فِي جَيش جهة العراق، وَكَانَ أَبوهُ قد كبر وَضعف وأضر، فَلَمَّا طَالَتْ غيبته، أخذ قائدُه بيده، ودخلَ به على عمر وهو في المسجد؛ فأنشده:

سأستعدي على الفاروق ربَّا ... له عَمَدَ الحجيجُ إلى بُسَاقِ

وأدعو اللهَ محتسباً عليه ... ببطنِ الأخشبينِ إلى دِفَاق

إن الفاروقُ لم يرددْ كِلاباً ... على شيخينِ هامهما زَوَاقِ

فبكى عمر رضي الله عنه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري، برد كلاب إلى المدينة.

فلما قدم ودخل عليه، قال له عمر: ما بلغ من برك بأبيك حتى أحبك كل هذا الحب ، واشتاقك كل هذا الاشتياق؟.

قال: كنت أوثره وأكفيه أمره، وكنت إذا أردت أن أحلب له لبناً أجيء إلى أغزر ناقة في إبله فأريحُها وأتركها حتى تستقِرَّ، ثم أغسلَ أخلافَها ( ضرعها ) حتى تبردَ، ثم أحلب له فأسقيه اللبن باردأً.

فبعث عمر رضي الله عنه إلى أمية فجأة فدخل عليه، وهو يتهادى وقد انحنى. فقال له: كيف أنت يا أبا كلاب؟ فقال: كما ترى يا أمير المؤمنين. فقال: هل لك من حاجة؟ قال: نعم. أَن أرى كلاباً فأشمه شمةً وأضمه ضمةً قبل أَن أَمُوت.

فبكى عمر رضي الله عنه وقال: ستبلغ في هذا ما تحب إن شاء الله تعالى.

ثم أمر كلاباً أن يحلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث بلبنها إليه.

ففعل وناوله عمر رضي الله عنه الإناء، وقال: اشرب هذا يا أبا كلاب. فأخذه فلما أدناه من فيه.

قال: والله يا أمير المؤمنين إني لأشم في هذا اللبن رائحة يَدَيْ كلابٍ. إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ.

فبكى عمر رضي الله عنه وقال: هذا كلاب عندك، وقد جئناك به.

فوثب إلى ابنه وضمه.

وجعل عمر رضي الله تعالى عنه والحاضرون يبكون.

فقال عمر لكلاب: الزم أبويك فثم الجنة.

فلم يزل مقيماً عندهما إلى أن ماتا.

إنه الأب ... وإنه الحب ... حب الولد ... والحنين إلى الولد ... والحرص على الولد...

وَإنما أوْلاَدُنَا بَيْنَنا * * * أكْبَادُنَا تَمْشِي عَلى الأرْضِ

لَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ عَلى بَعْضِهِمْ * * * لاَمْتَنَعَتْ عَيْني مِنَ الْغَمضِ

ولكن بعض الولد لا يدرك هذا ... ولا يشعر بهذا ... ولا يقدر هذا .. حتى إذا مات أبوه ... نعاه وبكاه... وترحم عليه ورثاه...ولسان حال أبيه بعد الموت يقول له:

لا أُلفينَّكَ بعد الموتِ تندبُني * وفي حياتيَ ما زودتَّنيْ زادي

فإنْ حييتُ فلا أحسبِك في بلدِي * وإنْ مرضتُ فلا أحسِبْك عُوادي

أيها الأبناء ... أيتها البنات ... بر الوالدين ليس بالصعب المستحيل ... كما أنه ليس من السهل اليسير ... ولكنه يسير على من يسره الله عليه ... فَسَلِ الله العون والتثبيت...

أيها الأبناء والبنات ... بر الوالدين ليس تكليفاً ينبغي التخلص منه، وأداؤه بأقل جهد وأدنى كلفة .

وليس مهمة أو واجباً تقتسمه بينك وبين إخوتك.

البر ليس مناوبة أو محاصصة ... بل هو مزاحمة وتنافس على أبواب الجنة ... قبل أن تغلق... فإذا أغلقت فلا ينفع حينها بكاء ولا يجديك رثاء ..

لو أمطرتْ ذهباً منْ بعدِ ما ذهبا =لا شيء يعدلُ في هذا الوجودِ أبا

مازلتُ في حِجرِهِ طفلاً يُلاعبني =تزدادُ بَسمتُهُ لي كلما تَعِبا

لم يَحنِ ظهرَ أبي ما كانَ يَحمِلُهُ =لكنْ ليحملني منْ أجليَ انحدبا

وكنتُ أحجبُ عن نفسي مطالبها =فكانَ يكشفُ عما أشتهي الحُجُبا

أغفو وأمنيتي سرٌّ ينامُ معي =أصحو وإذ بأبي ما رُمتُ قد جَلبا

كفّاهُ غيمٌ وما غيمٌ ككفِّ أبي =لم أطلبِ الغيثَ إلا منهما انسكبا

يا ليتني الأرضُ تمشي فوقها فأرى =من تحتِ نعلكَ أني أبلغُ الشُهبا

مهما كتبتُ بهِ شعراً فإنَّ أبي في = القدرِ فوقَ الذي في الشعرِ قد كُتبا

يا منْ لديكَ أبٌ أهملتَ طاعتهُ =لا تنتظر طاعةً إنْ صِرتَ أنتَ أبا

فالبِرُّ قرضٌ إذا أقرضتهُ لأبٍ =يُوفيكَهُ ولدٌ والبِرُّ ما ذهبا

لا تنتظر موتهُ صِلْ في الحياةِ أباً=لا ينفعُ الدمعُ فوقَ القبرِ إنْ سُكِبا

نعم ... لا ينفعُ الدمعُ فوقَ القبرِ إنْ سُكِبا

اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا ... من مات منهم ... وأعنا على بر الباقين... يا أرحم الراحمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين