أدب الرحلات عند علي الطنطاوي من خلال كتابيه بغداد ذكريات ومشاهد، وصور من الشرق في إندونيسيا

الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- شخصية موسوعية يعد من أبرز الدعاة والقضاة والكتاب في القرن العشرين. ولد الشيخ عام 1909م في مدينة دمشق، ونشأ في أسرة علمية معروفة. فوالده الشيخ مصطفى الطنطاوي من الفقهاء الأجلاء في سوريا. يقول حفيد الشيخ مجاهد ديرانية: أما أبوه الشيخ مصطفى الطنطاوي فقد كان من العلماء المعدودين في الشام، وانتهت إليه أمانة الفتوى في دمشق. وصفه جدي بأنه كان من صدور الفقهاء، ومن الطبقة الأولى من العلماء والمربين(1).

أسرة أمه أيضاً من الأسر العلمية في الشام، كثير منهم كانوا من العلماء المعدودين، لهم تراجم في كتب الرجال. وأخو أمه هو محب الدين الخطيب الذي استوطن مصر، وأنشأ فيها صحيفتي الفتح والزهراء..كان له أثر في الدعوة فيها في مطلع هذا القرن(2).

لن نتحدث في هذا البحث عن نشأته وحياته العلمية، وعن المجالات التي غاصها الشيخ بعد تخرجه في الثانوية العامة من مكتب عنبر من الدعوة والصحافة والتدريس والقضاء، فلكل مقال مقام..

فإذا أردت أن تعرف عن سيرة الشيخ -رحمه الله- فطالع كتبه التي ملئت علماً وحكمةً وأدباً ووعظاً وتاريخاً. وكما يقول صاحب روائع الطنطاوي في مقدمته: اقرأ إن شئت كتاب: "فصول إسلامية"، و"في سبيل الإصلاح"، و"فتاوى الطنطاوي" لترى أي مفكر إسلامي يتصدى لقضايا المسلمين المعاصرة. اقرأ كتاب "أبو بكر الصديق"، و"أخبار عمر وقصة حياة عمر"، و"رجال من التاريخ"، لترى أي رجل عظيم يؤرخ لهؤلاء العظماء. اقرأ كتاب "قصص من التاريخ و"قصص من الحياة" لتعلم أي خيال مبدع ينسج من الحدث العارض، أو العبارة التاريخية المقتضية؛ قصة عبقرية. اقرأ كتاب "من حديث النفس" و"مع الناس" و"بغداد" لتعلم أي نفس هذه التي حملت أحاسيس كل نفس أفراحا وأحزانا وآلاما، وتأملات..إلخ(3).

لكن أود أن أشير في هذه المقدمة إلى أن الشيخ كتب في مواضيع الأدب، وتميز بأسلوبه السهل الممتنع الذي وهبه الله. كتب الشيخ في أدب الرحلات رغم أن تنقله لم يكن بغرض السياحة، وإنما كانت رحلات تحمل في طياتها أهدافا سامية من الدعوة والإرشاد، والتعلم والتعليم، وبيان كلمة الحق، ونشر لغة الضاد. فقد كان حريصا كل الحرص على نشر اللغة العربية. ففي سفره إلى باكستان أثنى على بعض المعاهد العلمية التي تعمل من أجل نشر اللغة العربية، كما ناشد البلاد العربية وحكامها الاهتمام باللغة العربية، وستجد التفصيل في مقالته "لغتكم أيها العرب" في كتابه فكر ومباحث.(4)

عني الشيخ عناية كبيرة بالوصف الدقيق لحياة الشعوب وعاداتها وثقافتها وتصرفات سكانها؛ بالإضافة إلى معالم البلد وحضارته وتاريخه وأماكنه البارزة. وفي هذا البحث المتواضع نحاول أن نتناول أهم ماقام الشيخ علي الطنطاوي بوصفها في رحلتيه إلى بغداد وإندونيسيا.

بغداد كما يراها الطنطاوي:

استطاع الشيخ أن يمتع القارئ الكريم بقراءة تاريخ بغداد والمراحل التي مرت بها من الصورة الأولى، وهي بغداد(5) قبل ألف وأربعمئة سنة، عندما كانت قرية صغيرة بجانبها سوق الأغنام والجمال، ومن حولها السواد، وفيها النخيل، يبدو من كل جهة فيها الموت يتربص لكل قادم عليها من غير أهلها الذين أنسوا بالموت حتى رأوا فيها الحياة، لا شريعة لهم إلا شريعة القوة، ولا حكم إلا حكم السيف. ثم يتحدث عن التغيير في بغداد بقيادة المثنى بن حارثة(6) الذي هزم الأعداء ووحد صفوف المسلمين وكلمتهم.

ويصف الشيخ الصورة الثانية لبغداد وذلك في عام 145 للهجرة، في عهد أبي جعفر المنصور الذي تقدمت فيه بغداد، وتحسنت أحوال سكانها تعليما وصحة وعيشا وأمنا ورخاء، وبنى إيوانا عليه قبة خضراء، وبقيت هذه القبة تاج بغداد وعلم البلد ترى من أطرافها جميعا، حتى هوت في ليلة عاصفة من سنة 329 للهجرة، أي بعد مئة وثمانين سنة.(7)

وحينما يتحدث الشيخ علي الطنطاوي عن هذا العهد الجليل في وصفه للصورة الثالثة لبغداد يقول: لقد صارت بغداد أم المدن وحاضرة الحواضر، وبلغت ما لم تبلغه روما في سلطانها، ولا القسطنطنية، ولا المدائن ذات الإيوان. لقد غدت سيدة العالم.. فالقوافل أبدا تتجه إلى بغداد بكل ثمين وجميل تحمله إليها لتلقيه بين يديها كما تحمل ماءها الأنهار من كل مكان لتصبه في البحر. كما تحدث عن نكبة بغداد التي ألمت بها في الحرب الداخلية بين الأمين والمأمون.

نهضة بغداد:

بعد أن تحدث بتفصيل عن هذه النكبة والأزمة التي مرت بها بغداد؛ تحدث عن دور العز بن عبد السلام(8) في إعادة الأمن والرخاء إلى الأمة الإسلامية في مصر، وانتصار المسلمين على المغول في عين جالوت. يقول الشيخ عن بغداد العصر الحديث: نهضت بغداد من سقطتها، ووقفت على قدميها، وانقضى الفيلم وصورة بغداد بمناراتها وقبابها ومعاهدها ومدارسها وامتددها وعمرانها تملأ أبصار المشاهدين وتعيش أبداً في قلوبهم.(9)

وصف سر من رأى:

وصف الشيخ سر من رأى وصفا دقيقاً بأسلوب جذاب عجز عن وصفه الكثير ممن زارها من الأولين والآخرين، يقول: "هي التي نهضت لبغداد لما كانت بغداد عاصمة الأرض، ولما بلغت غاية المجد وأبعد الأماني، وكان فيها مليونان من السكان، وكان فيها العلم والفن والسلطان. المدينة الملوكية التي ولدت فجأة، فإذا هي أجمل المدن، وإذا في كل ناحية منها عرس، وفي كل بقعة منها عرش(10).

وصف جسر بغداد:

يصف جسر بغداد قائلاً: لا أقول: إنه أعظم من جسر إسماعيل، أو أجمل من جسر الزمالك، ولكنَّ لجسر بغداد سرا آخر يعرفه كل من نظر في كتب الأدب والتاريخ، وقرأ عن جسر بغداد، هذا الذي جازه القواد الفاتحون والفقهاء والمحدثون والشعراء والماجنون. هذا الذي وقف عليه الرشيد والمأمون، وأبو حنيفة والشافعي، والفضل بن دينار(11)، ومطيع وأبو نواس، وعبدالله بن طاهر ويزيد بن مزيد. وشهد جلال الخلافة، وعظمة العلم، وروعة الزهد، وضحك المجون، وقوة الجيش، وجرى عليه نهر التاريخ، وتداعت على جوانبه القرون(11).

وصف المسجد:

من بين ما وصف الشيخ في زيارته لبغداد المسجد الجامع في (سُرَّ مَنْ رَأى) المعروف بالملوية، يقول الشيخ: كان أول ما رأينا المسجد الجامع، وهو كبير جداً؛ لو وضعت سامراء الحاضرة فيه لوسعها وفضل عنها، لم يبق منه إلا السور، وهو مبني من اللبن مثل سائر الأبنية العراقية تدعمه من ظاهره أبراج مستديرة، ووراء السور المنارة، وهي حلزونية الشكل، مؤلفة من سبع طبقات، وتحتها قاعدة مربعة أقيمت حديثا لتقويتها، طول الضلع من أضلاعها أربعون متراً، وارتفاع المنارة قريباً من 85 متراً، وقد بنيت على غرارها منارة جامع ابن طولون في القاهرة، ثم تركت هذه الصفة في المآذن، واتخذ لها سلم من جوفها.(12)

وصف إيوان كسرى:

في معرض حديثه عن بغداد ثم المناطق المجاورة لها تحدث عن قرية سلمان الفارسي رضي الله عنه ومسجده، وبجانبه بناء ضخم. فعند السؤال عن هذا المكان استغرب الشيخ بأنه إيوان كسرى، فقال في وصفه: وقفنا عليه فإذا هو طاق عال متهدم، وجدار شامخ متصدع، وإذا هو ضخم فخم، ولكنه عار موحش ليس فيه صورة ولانقش. لا صورة أنطاكية التي تروع بين روم وفرس، ولا أنو شروان يزجي الصفوف تحت الدرفس، ولا عراك الرجال بين يديه في خفوت منهم وإغماض..(13).

ويصف الشعب العراقي قائلاً: أشهد أن في العراق فتوة وشباباً، وأنه شعب عرف طريق الحياة فسلكه، ولقد رأيت من مظاهر الفتوة في بغداد ما جعلني أبكي من فرط التأثر. رأيت في بغداد طفلاً يدرج على باب منزله لم يتعلم المشي ولا النطق، وهو يحاول أن يخطو خطو الجند..، رأيت في بغداد أطفال المدارس الابتدائية يسيرون سير الجنود يقودهم مدرس بلباس ضابط يدربهم على فنون القتال.(14)

كما نقل في معرض حديثه عن بغداد وأهلها سؤاله الذي أعجب من إجابته، وهو أنه سأل الطلاب في الامتحان: ماذا يريد أحدكم أن يكون؟؟ فكان جواب الأكثرين أنهم يريدون أن يكونوا جنودا مشاة وركبانا وبحارة وطيارين يدافعون عن أمتهم ويذبون عنها كل طاغية أو جبار ينبع من الأرض أو يهبط من السماء.(15)

كما وصف فتوة العراق وبطولتها وجيشها وصفا رائعا معبرا يؤثر في النفس، ويمتع القارئ، ويجعله يفتخر بماضيه وأسلافه وأمجاده، بل حتى بالماضي القريب قبل هذا الغزو الأمريكي الذي دمر العراق، وهدم آثارها، وحطم معالمها. ستتمتع -أيها القارئ الكريم- بقراءتك لهذه الكلمات التي كتبها أديب الفقهاء وفقيه الأدباء.(16)

ومع ذلك فإن الشيخ -رحمه الله- أشار إلى بعض المساوئ التي رآها وشاهدها في أرض بغداد من عدم اهتمامهم بالصيام في شهر رمضان المبارك، وعدم تمسك بعضهم بالكتاب والسنة، ومجاهرة المسلمين بالعصيان، وتقربهم من الإلحاد الذي يعده الشيخ من أكبر التحديات والفتن. ويسمي هؤلاء الذين يريدون تجريد الدين من حياة المسلمين المجددين المقلدين للإفرنج لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا يعرفون الحسن من السيئ، ولكن يعرفون أن هذا غربي فهو حسن؛ ولو كان الرقص والزنا والشيوعية والإباحية والانتحار.(17)

وصف شخصية غازي:

وصف الشيخ شخصية الملك غازي في مقالين في كتابه بغداد وصفا دقيقاً. وفي مقاله بعنوان: يا غازي عليك رحمة الله! يقول: يا بدر العراق الآفل! يا أمل الشام الذاهب! يا دنيا من الفتوة والبطولة والنبل طوتها كف الموت! يا غازي عليك رحمة الله!. وفي مقاله: بغداد أيام غازي؛ يتحدث عن وفاة غازي وحزن المسلمين والشعب العراقي، ويصف حزنهم وألمهم جميعا شبابا وشيوخا، رجالا ونساء، فيقول فيه: ومن أعجب ما شاهدت فتيات المدارس وهن يلطمن وجوها يؤذيها المس، ويدميها النسيم، لايشفقن على أنفسهن.. فلما تم الدفن وأودع الثرى الملك الشاب الذي كان يفيض قوة وحياة، وانطلقت المدافع تعلن انتهاء الدفن، وأيقن الناس أن المصيبة قد تمت...إلخ(18).

إندونيسيا كما يراها الطنطاوي

الكتاب يتناول العديد من الصفحات المشرقة لهذا البلد، كما يبين ثقافة سكان إندونيسيا ولغتها وبيئتها وصناعتها، ويتحدث عن التعليم فيها وغيرها من الأشياء التي لاحظها الشيخ في أثناء زيارته إندونيسيا. وفيما يأتي أهم المواضيع التي تناولها الشيخ:

الجزر في إندونيسيا:

يقول الشيخ علي الطنطاوي: إن في إندونيسيا ثلاثة آلاف جزيرة، منها جزيرة جاوا جزيرة السحر والفتون، جزيرة الهوى والشباب، حيث سرنا عشرين ساعة في القطار فلم نمر على مكان خال من السكان. جاوا التي فيها ثلاثة وخمسون مليونا، وما تزيد مساحتها على ثلث سوريا(19).. جاوا التي يصدر منها السكر إلى ربع العالم فلاعجب أن يكون كل شيء فيها حلوا كالسكر.(20)

لغة الإندونيسيين

يرى الشيخ أن اللغة الشعبية في الملايا لغة سهلة، بل نسب إلى علماء اللغات أنهم يرون أنها ستكون في الشرق كالإنكليزية في الغرب، وليس فيها تصريف، ويأخذون المصدر ويضمون إليه الضمائر والظروف، والجمع يكون بتكرار اللفظ.. ثم أعقب بأمثلة متعددة.(21)

التعليم في إندونيسيا:

قبل الغزو الذي يعاني منه المسلمون أجمعين كانت نسبة التعليم عالية جدا في إندونيسيا، وخاصة بعد مجيء الإسلام ازدادت نسبة التعليم، فقد كانت من قبل نسبة التعليم فوق 70%، وقد تعلم المسلمون اللغة العربية، لكن الانحطاط جاء بعد دخول الهولنديين، وتخلفت إندونيسيا.

تحدث الشيخ عن التنصير والاستعمار في إندونيسيا وكيف أديا دورهما في هدم كيان المسلمين، وعن الدعم الهولندي الذي أنفق على المنصرين لنشر دينهم وأفكارهم.

والاتجاهات الثلاثة في هذه البلد كما أشار إليه المؤلف -رحمه الله- هي الاتجاه القومي، والاتجاه الديني، والاتجاه الوسطي؛ وهو الاتجاه القومي الديني.(22) ثم ذكر أنواع المدارس والمؤسسات التعليمية التي تميل إلى هذا الاتجاه، وسنذكرها مع تعريف موجز لها:

مدارس الجمعية المحمدية(23): قارن الشيخ في كتابه بين المدارس الحكومية التي أنشأتها الحكومة الهولندية وأصحاب الاتجاه المعتدل الذي يسميه الشيخ القومي الديني.. يقول الشيخ: فقد بلغت نسبة الأموال التي أنفقتها الحكومة الهولندية لشؤون التعليم وبين ما أنفقتها الجمعية المذكورة في سنة 1932 كنسبة (6) إلى (8)، وهذه النسبة أخذت في السنوات الأخيرة في الارتفاع.. وبلغ ما عندها من المدارس والمعاهد في السنوات الأخيرة أكثر من ألفي مدرسة ما بين ابتدائية وثانوية وعالية.(24)

المدارس الدينية: قام بتأسيسها المصلح زين الدين لاباي 1915م، وأدخل العلوم العصرية في المعاهد الدينية، وقام بتطبيق أساليب التربية الحديثة في التدريس، واهتم بتبسيط الكتب الدينية لما فيها من الصعوبة والتعقيد.

مدارس جمعية باسنوندان: هي أيضا من قبيل الاتجاه الثالث، وهذه المدارس انتشرت في جزيرة جاوا الغربية تهتم بالعلوم العصرية والدينية.

معاهد عالية إسلامية: ذكر الشيخ أسماء العديد من المدارس التي أنشئت في سومطرة الغربية، منها نورمال إسلام، وإسلاميك كوليج، والجامعة الإسلامية.

تحدث الشيخ عن المدارس الحكومية والأهلية في إندونيسيا، وأن الشعب الإندونيسي بعد الحرب العالمية الأولى في 1918م؛ طالبت بوجوب إصلاح الشؤون التعليمية. فقد تم تنظيم شؤون التعليم برئاسة الحكومة الهولندية، وجعل على مراحل متعددة كما يأتي: التعليم الأولي ومدته سنتان، والتعليم الابتدائي ومدته سبع سنوات، والتعليم الفني ومدته ثلاث سنوات، والتعليم الثانوي ومدته خمس سنوات، والتعليم العالي ومدته خمس سنوات.

ولغة التعليم كانت هولندية حسب هذا النظام. أما المدارس الإندونيسية فكان النظام بها مقتصرا على ثلاث مراحل: التعليم الأولي (3 سنوات)، والتعليم الابتدائي (3 سنوات)، ومدارس تخريج المعلمين (5 سنوات).

الإندونيسيون مواظبتهم واهتمامهم:

تحدث الشيخ عن اهتمام الإندونيسيين بالضيوف وإكرامهم، كما أنه لم يشعر أنه أجنبي في يوم العيد. ووصف مشاهد متعددة وخاصة صلاة العيد، ويقول: أمَّ الرجالُ كلهم المصلى فملؤوه على رحبه حتى إني لأظن أن من حضر صلاة العيد في جاكرتا يبلغون مئات الألوف، يكبرون معا، ويركعون معا، ويسجدون معا.. مشهد عظيم عظيم عظيم! لا يرى الانسان مثله إلا في بلد عاد إلى هذه السنة المتبعة في صلاة العيد.(25) كما وصف حياتهم في العيد، وتحدث عن رمضان واهتمامهم بالتراويح والعبادات، وعن بعض أكلاتهم الشعبية.

ذكر الشيخ الطنطاوي عادة الشعب الباكستاني السيئة (وهي حقيقة) تأخر المواعيد، فلا تبدأ حفلة في موعدها، ولا يسافر قطار في ساعة سيره.. أما إندونيسيا فالاهتمام فيه بالمواعيد أمر واضح وكل شيء يجيء في وقته.(26)

الفواكه والأطعمة في إندونيسيا:

بيَّن أنواع الثمار والفواكه الموجودة في إندونيسيا؛ فالبرتقال أنواع، والببايا وهو كالبطيخ الأصفر المستطيل وأنواعه كثيرة، والموز 30 نوعاً، ومنه ما يشوونه ويبيعونه مشويا. وكذلك النارجيل والأناناس.(27)

يشكو الشيخ من كثرة أكلهم الرز حتى إنهم يقدمون صباح مساء الرز. فالرز يحتفلون بزرعه وحصاده، ويبالغون في احترامه، وهم يطبخونه ليس كما هو المعتاد، بل يسلقونه بلا ملح. كذلك البيض له النصيب الأكبر في هذه البلاد بعد الرز. ولمانغا والتانجا أنواع كثيرة في إندونيسيا ولكن الشيخ لعله لم يعجب بهذه الثلاثين إعجابه بالنوع الواحد في الموجود في البلاد العربية. بينما وصف التانكا بأنه حلو جدا، وأن وزنه يزيد عن أربع من أكبر أنواع البطيخ.

خلال زيارته لمدينة جوكجا تحدث عن الجودك الذي كان معروفا بأنه أفخر طبق طعام في الدنيا لكن اسودت الدنيا أمام عيني الشيخ لما ذاق أفخر طبق الطعام، ويقول الشيخ: وإذا الجودك المحترم مجموعة من غرائب الخضار، طعمها كطعم ورق الباذنجان، قد طبخت مع البيض المسلوق بسمن جوز الهند، وملئت بالفلفل الأحمر الذي هو النار المحرقة، ووضع مع هذا كله عجائب لم أعرفها لأنها هي سر الصنعة.. فقلت: واشوقاه إلى الشام وطعام الشام!.(28)

الصناعات في إندونيسيا:

تشتهر إندونيسيا بالصناعات الفضية، وخاصة الحفر البارع عليها في الأواني والخواتم والعقود والأقراط والزخارف العجيبة. والقماش النادر الذي يتخذ منه الفوط اللباس الرسمي لإندونيسيا، والبامبو مليء في غاباتهم فيبنون مساكنهم منه، ويفرق الشيخ بينه وبين القصب في البلاد العربية قليلا، وهو أنه أغلظ ساقاً، وأعلى فرعاً.(29) وتعد صناعة السجادات رائجة في هذه البلاد، والإقبال عليها كبير.

اللغة العربية والمدارس العربية في إندونيسيا:

الألفاظ العربية كثيرة في اللغة الإندونيسية، منها أسماء أشخاص وأسماء بلدان، ومنها ما هو مستعمل بلفظة كشركة بمعنى جمعية، ودولت بمعنى سيادة، ورعيت بمعنى شعب (رعية)، وسؤال بمعنى قضية...إلخ.

ومنها ماهو مستخدم بلفظ محرف مثل لاهير ظاهر، وآكال أي عقل، ونسكة أي نسخة، وخلاياك أي خلائق، وغير ذلك.(30)

زار الشيخ في إندونيسيا بعض المدارس المهتمة بتعليم الكتاب والسنة، ويصف بأنه تذكر بالمدارس الشرعية في دمشق القديمة التي كانت شديدة الاهتمام بالنحو الصرف والفقه والتجويد والحديث والتفسير. والكتب هي هي، الأساليب هي هي، الأزياء هي هي، لا يختلف شيء فيها عما كان في مدارس الشام ومصر.(31)

العرب في إندونيسيا من حضرموت، وقد وصفهم الشيخ وأثنى عليهم أنهم أكثر نشاطاً وأبعدهم همةً، لكن العرب لم يستطيعوا البقاء هناك لأسباب متعددة أهمها الخلاف فيما بينهم.(32)

تحدث الشيخ في كتابه عن استقلال إندونيسيا، وعن الزواج في إندونيسيا، وبعض العادات العجيبة!.. مثلاً منع المخطوبة من الخروج من بيتها أربعين يوما، وإقامة حفلة معروفة عندهم بـ(سلامتان) أي حفلة السلام قبل الزواج بخمسة أيام، وأسبوع السوق، وإلى ذلك عادات وتقاليد كثيرة معروفة في إندونيسيا. كما تحدث عن إندونيسيا كما يراها الرحالة ابن بطوطة عندما دخلها في القرن السابع الهجري.. وخاصة وصفه لزيارته جاوا، والعنوان الذي اختاره لبيان مشاعره المرهفة تجاه هذه الزيارة "يوم في الجنة"، يقول: قد كان لي فيها يومان عشت خمسين سنة فما رأيت في حياتي يومين كانا أمتعين لنفسي متعة، وأحلى في عيني منظراً، وأبقى في قلبي أثرا منهما.(33)

وكما وصف مدنا عديدة زارها خلال هذه الرحلة مثل جوكجا التي يقول عنها: إنها بلد العلم والجهاد، وتحدث عن سورابايا. في ختام هذا البحث أود أن أنقل إليكم ما كتبه الشيخ في وصف الشعب الإندونيسي:

"القوم في إندونيسيا أرق الناس نفساً، وأرهفهم حساً، لا يحتملون شدة ولا عنفاً، ولقد لمت السائق مرة على ذنب أذنبه، ورفعت صوتي عليه، فبقي أياماً متألماً. وما سمعت في إندونيسيا ضجة، فالشوارع تكاد تكون هادئة، والكلام يكاد يكون همساً، وما رأيت فيها خناقة، والخناقات في الشوارع مقياس أعصاب الأمم. ففي بغداد تبدأ الخناقة، فيكون للسب عشرون ثانية فقط، ثم يكون سل الخناجر. وفي دمشق يستغرق السب دقيقتين فقط، ثم يكون اللطم واللكم. وفي القاهرة يستمر السب والتهديد نصف ساعة، ثم ليكون شيء. وفي إندونيسيا لا يكون سب أبداً لأن لغتهم (كما أظن) خالية من السباب.(34)

الخاتمة:

وفي نهاية هذا البحث أوصي بما يأتي:

لم يكن اهتمام الشيخ بالرحلات من قبيل المتعة والسياحة، بل رحلاته هادفة علمية دعوية تربوية.

تتميز كتب الشيخ عن كتب ومؤلفات الأدباء المعاصرين بتنوع موضوعاتها ومساسها المباشر بالحياة، ولذلك يجب على المثقف المحب للقراءة الاهتمام بها.

على الطلاب والشباب الاهتمام بقراءة كتب الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-، ففيها زاد لمحبي الأدب، وفيها لون جديد يتناسب مع العصر.

حرص الجامعات والمعاهد على إدراج كتبه في مناهجهم الدراسية.

على الجمعيات والمؤسسات والمكتبات الاهتمام بترجمة كتب الشيخ ومقالاته خاصة إلى اللغتين الأردية والإنجليزية.

على الجمعيات والمؤسسات عقد المؤتمرات والندوات بعنوان شخصية علي الطنطاوي وخدماته في الأدب العربي على المستوى الحكومي والشعبي.

يجب على الإعلاميين والكتاب والأدباء الاقتداء بالشيخ في أسلوبه السلس عند مخاطبة العامة في موضوعات تتعلق بحياتهم الاجتماعية.

ينبغي للمعلمين والأساتذة أن يوجهوا تلاميذهم بدراسة كتب الشيخ قراءة وتحقيقاً.

على الباحثين أن يدرسوا حياته ويكشفوا لنا جوانبها التي لم يتم الاطلاع عليها.

وعلى المهتمين وأولي الأمر أن يحلوا مشاكل المسلمين في ضوء ما اقترحه الشيخ من الحلول في كتبه ومقالاته.

المصدر: مجلة الأدب الإسلامي، العدد: 116

الهوامش:

(1) علي الطنطاوي أديب الفقهاء وفقيه الأدباء، مجاهد مأمون ديرانية، ص:10، دار القلم، دمشق، سورية.

(2) علي الطنطاوي أديب الفقهاء وفقيه الأدباء، ص: 11، مصدر سابق.

(3) روائع الطنطاوي، إبراهيم مضواح الألمعي، بتصرف بسيط، ص: 9، دار المنارة للنشر والتوزيع، جدة، السعودية.

(4) ينظر: فكر ومباحث، علي الطنطاوي، ص: 9، دار المنارة للنشر والتوزيع، جدة، السعودية.

(5) في معجم البلدان: بغداد أم الدنيا وسيدة البلاد، وبغداد فارسية، ومعناها: بستان رجل، فـ"باغ" بستان، و"داد" اسم رجل. قال أحمد بن حنبل: بغداد من الصراة إلى باب التبن، ثم زيد فيها حتى بلغت كلواذي والمخرم وقطر بل.. وأول من مصرها وجعلها مدينة المنصور بالله عبدالله محمد ثاني الخلفاء لغذائها وطيب هوائها، وهو الذي سماها مدينة السلام. انظر: شهاب الدين ياقوت: معجم البلدان: 1/456-458، دار صادر، بيروت، لبنان.

(6) يقول ابن الأثير: وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع مع وفد قومه، وسيره أبو بكر الصديق رضي الله عنه في صدر خلافته إلى العراق قبل مسير خالد بن الوليد.. وكان شجاعاً، ميمون النقيبة، حسن الرأي، أبلى في قتال الفرس بلاء لم يبلغه أحد. والتفصيل في أسد الغابة في معرفة الصحابة: 5/55، باب الميم والثاء، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

(7) بغداد ذكريات ومشاهد، علي الطنطاوي، بتصرف بسيط، ص: 8، دار المنارة للنشر والتوزيع، ط2، 1410هـ/ 1990م، جدة، السعودية.

(8) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً، ثم المصري داراً ووفاةً، والشافعي مذهباً. واختلف في تحديد سنة ولادته؛ فقيل: سنة 577هـ، الموافق 1181م، درس علوم الشريعة والعربية على أكابر علماء دمشق، ومارس التدريس والإفتاء والقضاء، وشارك في الجهاد، وعمر حتى مات بالقاهرة سنة 660هـ، الموافق 1262م، ودفن بها. انظر كتاب: العز بن عبدالسلام، للدكتور محمد الزحيلي، ص:39، دار القلم، دمشق، سورية.

(9) بغداد ذكريات ومشاهد، بتصرف بسيط، ص: 15. مصدر سابق.

(10) بغداد ذكريات ومشاهد، ص: 25، مصدر سابق.

(11) الصواب: الفضل بن الربيع؛ وزير هارون الرشيد ثم الأمين، قال الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: "كان الفضل بن الربيع (138-208هـ)، من رجال العالم حِشمةً وسُؤدُداً وحزماً ورأياً. قام بخلافة الأمين، وساق إليه خزائنَ الرشيد، وسلَّم إليه البُردَ والقضيب والخاتَم، جاءه بذلك من طوس، فلما أدبرت دولةُ الأمين، اختفى الفضل مدة طويلة...، وعفا عنه المأمون". انظر: شمس الدين الذهبي (2001)، "سير أعلام النبلاء، الطبقة العاشرة" الفضل بن الربيع، 10، بيروت: مؤسسة الرسالة، ص:110، مؤرشف من الأصل في 2 مايو 2020م.

(12) بغداد ذكريات ومشاهد، بتصرف بسيط، ص: 22، مصدر سابق. ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان: قال الزجاجي: كان اسمها ساميراء سميت بسامية بن نوح، فلما استحدثها المعتصم سماها "سر من رأى". انظر: 3/215، دار صادر، بيروت، لبنان.

(13) بغداد ذكريات ومشاهد، بتصرف، ص: 31-32، مصدر سابق.

(14) بغداد ذكريات ومشاهد، بتصرف، انظر: ص: 38-46؛ للاطلاع على المقالة الكاملة عن الإيوان، مصدر سابق.

(15) بغداد ذكريات ومشاهد، بتصرف، انظر ص: 62، مصدر سابق.

(16) بغداد ذكريات ومشاهد، ص: 63، مصدر سابق.

(17) يقول: "كان جيش الفتوة لايزال يسير، والأرض ترتج بالموسيقى والنشيد والهتاف والتصفيق والدعاء والبكاء، فعاد الأمل إلى نفسي قويا، هذه الوحدة العربية، هذه العرب، هؤلاء عدة المستقبل، وهذا الجيش وهذه الآمال.. فاطمئنوا فإن لكم جيشاً" (لكن العروبة وفتوتها أصبحت قصة من القصص الماضية، وبغداد بل العراق بعد الغزو الأمريكي أصبح بيد الفرس أعداء العروبة والعربية والإسلام...الكاتب). بغداد ذكريات ومشاهد ص: 68، مصدر سابق.

(18) بغداد ذكريات ومشاهد، انظر: ص: 117-123، مصدر سابق.

(19) بغداد ذكريات ومشاهد، انظر: ص: 124-138، مصدر سابق.

(20) تبلغ مساحة جزيرة جاوا 132000كم2، وتبلغ مساحة سورية 185000كم2، أي تعادل مساحتها حوالي 71% من مساحة سورية. (التحرير).

(21) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 17، دار المنارة للنشر والتوزيع، ط1، 1412هـ/1992م، جدة، السعودية.

(22) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 37، مصدر سابق.

(23) مؤسس الجمعية المحمدية هو المصلح الكبير الشيخ أحمد دحلان، وكان الهدف من إنشاء هذه الجمعية إيجاد حياة إسلامية حديثة في الشعب الإندونيسي على حسب ما يتطلبه الدين الحنيف. تعنى الجمعية بالتعليم بشقيه الديني والمعاصر، وهذه الجمعية لم تلاق اهتماما كبيرا من الشعب، لكن مع مضي الوقت بدأ الناس يقبلون على أفكار هذا الاتجاه. ومن إنجازاتها المدارس التي تم ذكرت. صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 143-150، مصدر سابق.

(24) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 143-150، مصدر سابق.

(25) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 149، مصدر سابق.

(26) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 66، مصدر سابق.

(27) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 57، مصدر سابق.

(28) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 62، مصدر سابق.

(29) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 103-104، مصدر سابق.

(30) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 67، مصدر سابق.

(31) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 69، مصدر سابق.

(32) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 38، مصدر سابق.

(33) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 185، مصدر سابق.

(34) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 91، مصدر سابق.

(35) صور من الشرق في إندونيسيا، ص: 163، مصدر سابق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين