الوسوسة

اختيار الشيخ: مجد مكي


القلب مثل هدف تنصب إليه السهام من كل الجوانب، ومن أخص الآثار الحاصلة في القلب: الخواطر، والخواطر: ما يحصل في القلب من الأفكار والأذكار، فهي تخطر بالقلب بعد أن كان غافلاً عنها.

 والخواطر هي التي تحرك الإرادة، فمبدأ الأفعال الخواطر، فالخاطر يحرك الرغبة، والرغبة تحرك العزم، والعزم يحرك النية، والنية تحرك الأعضاء.
والخواطر تنقسم  إلى ما يدعو إلى الخير وينفع في الدار الآخرة،وهو الخاطر المحمود ، ويسمى: إلهاماً، وخاطر يدعو إلى الشر وما يضر في العاقبة، ويسمى: وسواساً.
وسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى: مَلَكاً، وسبب الخاطر الذي يدعو إلى الشر يسمى: شيطاناً.
فالوسوسة في مقابلة الإلهام، والشيطان في مقابلة الملك.
والقلب متجاذبٌ يبن الشيطان والملك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (في القلب لمتان: لمَّة من الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله سبحانه وليحمد الله، ولمَّة من العدو: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير، فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم تلا قوله تعالى:[الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ] {البقرة:268} ) الترمذي والنسائي.
ولتجاذب القلب بين هذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن).
والقلب صالح لقبول آثار الملك وآثار الشيطان، فإن اتبع الإنسان مقتضى الشهوة والغضب ظهر تسلُّط الشيطان، وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وتشبه بأخلاق الملائكة صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم.
ولا يخلو قلب من جولان الشيطان فيه بالوسوسة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير )رواه مسلم من حديث ابن مسعود.
 1و2 ـ فمن أبوابه العظيمة: الغَضَب والشَّهوة، فالغضب غول العقل، وإذا غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبيُّ بالكرة.
3و4 ـ ومن أبوابه العظيمة: الحسد والحرص، فإذا كان العبد حريصاً أعماه حرصه وأصمَّه.
5 ـ ومن أبوابه العظيمة: الشبع من الطعام، وإن كان حلالاً صافياً، فإنَّ الشبع يقوي الشهوات، والشهوات أسلحة الشيطان.
6 ـ ومن أبوابه: حب التزيُّن من الأثاث والثياب والدار، والشيطان إذا رأى ذلك غالباً على الإنسان باض وفرَّخ، فلا يزال يدعوه إلى عمارة الدار وتزيين سقوفها وحيطانها، وتوسيع أبنيتها، ويدعوه إلى التزيُّن بالدواب والثياب، ويستسخره طول عمره، فلا يزال يؤديه من شيء إلى شيء إلى أن يساق إليه أجله فيموت وهو في سبيل الشيطان واتباع الهوى.
7 ـ ومن أبوابه العظيمة: الطمع، لأن الطمع إذا غلب على القلب يحبب إليه التصنع والتزين لمن طمع فيه بأنواع الرياء والتلبيس، والثناء عليه بما ليس فيه، والمداهنة له بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8 ـ ومن أبوابه العظيمة: العجلة وترك التثبت في الأمور، وفي الحديث: (العجلة من الشيطان والتأني من الله تعالى)، وقال تعالى:[خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ] {الأنبياء:37}. وقال:[ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولًا] {الإسراء:11}. وهذا لأن الأعمال ينبغي أن تكون بعد التبصرة والمعرفة، والتبصرة تحتاج إلى تأمُّل وتمهل، والعجلة  تمنع من ذلك، وعند الاستعجال يروِّج الشيطان شره على الإنسان من حيث لا يدري.
9 ـ ومن أبوابه العظيمة: الدراهم والدنانير وسائر أصناف الأموال من العروض والدواب والعقار، فإن كل ما يزيد على قدر القوت والحاجة فهو مستقر الشيطان.
10 ـ ومن أبوابه العظيمة كذلك: البخل وخوف الفقر، فإن ذلك هو الذي يمنع من الإنفاق والتصدق، ويدعو إلى الادخار والكنز . ومن آفات البخل: الحرص على ملازمة الأسواق لجمع الأموال، والأسواق هي معشش الشيطان.
11 ـ ومن أبوابه العظيمة: التعصب للمذاهب والأهواء والحقد على الخصوم، والنظر إليهم بعين الازدراء والاستحقار.
ومن عظيم حيل الشيطان: أن يُشغل الإنسان عن نفسه بالاختلافات الواقعة بين الناس في المذاهب والخصومات.
والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة القلب دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويستمكن اجتياز الثاني اختلاساً.
وأكثر القلوب قد فتحها جنود الشياطين وتمكنها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واطراح الآخرة.
روى مسلم /4083/من حديث عثمان بن أبي العاص: يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي، فقال: ذلك شيطان يقال له خنزب: فإذا أحسسته فتعوَّذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً.قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني قال الله تعالى:[إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ] {الأعراف:201}.
قال مجاهد في قوله تعالى:[مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ] {الناس:4}. قال: هو منبسط على القلب، فإذا ذكر الله تعالى خَنَس وانقبض، وإذا غفل انبسط على قلبه.
من مكايد الشيطان: أن يعرض الشر في معرض الخير، والتمييز في ذلك غامض، وأكثر العباد به يهلكون، فإن الشيطان لا يقدر على دعائهم إلى الشرِّ الصريح، فيصور الشر بصورة الخير.
وتلبيسات الشيطان من هذا الجنس لا تتناهى، وبها يهلك العلماء والعباد والزهاد والأغنياء والفقراء، وأصناف الخلق ممن يكرهون ظاهر الشر.
ولا يستغني أحد قط عن مجاهدة الشيطان ومدافعته ما دام الدم يجري في بدنه، فإنه ما دام حَيَّاً فأبواب الشيطان مفتوحة إلى قلبه لا تنغلق، وهي: الشهوة والغضب والحسد والطمع والشَّره وغيرها، ومهما كان الباب مفتوحاً والعدو غير غافل لم يدفع إلا بالحراسة والمجاهدة.
مداخل الشيطان إلى القلب:
مثال القلب، مثال حصن، والشيطان عدوٌّ يريد أن يدخل الحِصْن فيملكه ويستولي عليه ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله، وحماية القلب من وسواس الشيطان واجبة، وفرض عين على كل مكلف.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
 
انتقاها باختصار وتصرف من إحياء علوم الدين للإمام الغزالي مَجْد مكي غفر الله له.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين