الزنا وآثاره في الدنيا والآخرة وهل تختلف درجاته باختلاف الزناة؟

الزنا أكبر الكبائر بعد الكفر والقتل، ولا تخالفني أيها القارئ إذا قلت لك: إنَّ الزنا أفحش الفواحش على الإطلاق بما فيها القتل وما فيها الكفر، فإنَّ عاره بهدم البيوت الرفيعة، ويطأطئ الرؤوس العالية، ويسوِّد الوجوه البيضاء، ويصبغ بأسود من العار أنصع العمائم بياضاً، ويخرس الألسنة المنطيقة البليغة، ويبدِّل أشجع الناس من شجاعتهم جنناً لا يدانيه جبن، ويهوىٰ بأطول الناس أعناقاً وأسمى مقاماً وأعرقهم عزَّاً إلى هاوية من الذل والازدراء والحقارة ليس لها من قرار، وهو أقدر أنواع العار على نزع ثوب الجاه مهما اتسع، ونباهة الذكر مهما بعدت، وإلباس ثوب من الخمول ينبو بالعيون عن أن تلتفت إلى من كان في بيوتهم لفتة احترام، وهو لطخة سوداء إذا لحقت تاريخ أسرة غمرت كل صحائفه البيض، وتركت العيون لا ترى منها إلا سواداً حالكاً، وهو الذنب الظلوم الذي إن كان في قوم لا يقتصر على شَين من قارفته من نسائهم بل يمتدُّ شينه إلى من سواها منهم فشينهن جميعاً شيناً يترك لهنَّ من الأثر في أعين الناظرين ما يقضي على مستقبلهنَّ النسويّ، وهو العار الذي يطول عمره طولاً تتناقله الأجيال جيل بعد جيل، وكلما طال عهده اشتد قبح صورته، فقاتله الله من ذنب وقاتل فاعليه.

ولما كان الزنا بهذا القدار من الشناعة جعل ربنا الحكيم جزاءه لمن يثبت عليه القتلَ إنَّ كان محصناً، وليس هذا القتل كباق أنواع القتل، لا، هو قل له من الفظاعة ما ليس لغيره، وأيُّ فظاعة تداني رجم إنسان بالحجارة كالكلب العقور، وكلَّما لاذ إلى جهة فراراً من ألم الرجم استقبل من تلك الجهة بحجارة تجعله من شدتها وحدّتها يرتدّ عنها مستغيثاً بجهة أخرى فتقابله هذه بآلم من الحجارة وأوجع، ولا يزال هكذا حتى تفيض روحه ويفارق هذه الحياة ؛ موتة ما أشنعها، وما أفظعها، وما آلمها للقلب، وما أوجعها للبدن، وما أظهر فضيحتها، وما أشد شماتة الشامتين فيها، فإنَّ ذلك الرجم يكون بمشهد جماهير من المؤمنين وبأيديهم، بينهم المرجوم وهم حوله يحيطون به. هذا حكم الحصن الذي تزوج ودخل بزوجه دخولاً صحيحاً، وإن فارقها بعد ذلك فراق لا رؤية للنساء بعده.

أما غير المحصن فجزاؤه مائة جلدة يجلدها بلا رأفة عليه ولا رحمة، يكون ذلك بمشهد طائفة من المؤمنين أيضاً ليكون أوجع لقلبه مع وجع بدنه، والمائة الجلدة ليس ببعيد أن تأتي على حياته، الرجل في هذا والمرأة سواء، والغني كالفقير، والشاب كالشيخ، والحاكم كالمحكوم، والعربي كالعجمي.

وشيء له من الشناعة والجزاء ما ذكرنا – لا يثبت على فاعله كما يثبت غيره، بل شدّد ربنا في إثباته تشديداً يدهشك، فإنه اشترط في شهوده العدالة - واشترط أن يكون الشهود أربعة لا يكفي فيه اثنان ولا ثلاثة - واشترط أن ينفقوا في وصف زمانه ومكانه، فإن كانوا أربعة فيهم فاسق أو كانوا كلهم عدولاً ولكن اختلفوا في الزمان أو المكان كانوا قاذفين، والقاذف - لما أنه يرمى أهل العفة بهذا الجرم الهائل - جعل ربنا أدبه أن يجلد ثمانين جلدة حتى لا يرجع إلى رمي الناس بما يشينهم شيناً قبيحاً، وسمَّاه في كتابه كاذباً، ووصفه بالفسق، ونهانا أن نقبل شهادته أبداً، وهل يرتفع كل ذلك أو بعضه بالتوبة الصادقة ؟ في ذلك كلام ليس هنا موضعه، هذا جزاء القذف في الدنيا.

أما في الآخرة فإنَّ الله تعالى يقول في جماعة القاذفين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: 19] ، وهذا شيء عظيم جداً، وكيف لا يكون عظيماً وهو عذاب أليم دنيا وأخرى. كل سببه حب القلب فقط لإشاعة الفاحشة في المؤمنين، فكيف بمن أضاف إلى الحب الكلام والتشنيع؛ وللزوج - إنَّ قذف زوجه - حكم غير ما تقدم ليس هنا موضع بسطه، ويقول الله عز وجل في أولئك الفاحشين أيضاً ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡغَٰفِلَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ٢٣ يَوۡمَ تَشۡهَدُ عَلَيۡهِمۡ أَلۡسِنَتُهُمۡ وَأَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ٢٤ يَوۡمَئِذٖ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلۡحَقَّ وَيَعۡلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ ٱلۡمُبِينُ٢٥﴾[النور:23-25]

ذلك جزاء الزاني الدنيوي، أما جزاؤه الأخروي فشيء، تذهل له الألباب وتطيش العقول وتقطع القلوب حسرات، وحسبك في ذلك أن تعلم أنَّ زنية واحدة أحبطت عبادة ستين عاماً لعابد من العباد العظام، كما رواه ابن حبان في صحيحه عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا حبطت حسناته كلها صار ذا سيئات فقط فيكون من أهل النار إن لم يعمل بعد ذلك ما يؤهله للجنة، وإن كانت فعلة واحدة من هذه الفاحشة كانت سبباً في جهنم لمن كان لا حرفة له إلا العبادة – فما ظن القارئ من أستعبده فرجه وصار لا يستغني عن الزنا مرات في كل يوم من أيام حياته الطويلة، وهو مع ذلك لا يعرف العبادة أتؤكل أم تشرب عياذاً بالله وملاذاً، وفزعاً من غضبه إلى رحمته.

وقد جاء من غير طريق أنَّ ريح فروج الزانين والزانيات تؤذي أهل النار المؤمنين غير الزانين من شدة نتنها، ومعنى هذا أنَّ تلك النتونة بلغت في الشدة مبلغاً آلم الناس إيلاماً يشغلهم عن ألم النار، ولو كان ألم النار أشد من ألم تلك الرائحة الكريهة لتلاشي ألم تلك الرائحة في ألم النار، فإنَّ الضعيف دائماً يتلاشى في القوي، ولو كان ذلك لشغلوا عن الضعيف بالقوي، ولا كانوا يجدون له أيّ أثر، وإذا آذتهم تلك الرائحة وشغلتهم آلامها عن ألم النار دلَّ ذلك على أنَّ تعذيب ربنا لأهل الزنا في فروجهم فوق تصور المتصورين وتقدر المقدرين، وذلك ما تريد أن يعلمه حضرة القارئ، وإنما كان ذلك في الفروج لأنها التي اقترفت لذة المعصية فيناسب جداً أنَّ تذوق ألم العذاب، وإذا كان أهل النار المؤمنون جميعاً - وعددهم لا يعلمه إلا الله - يعذبون بريح فروج الزناة - فكيف بالزناة أنفسهم من ذلك العذاب؟!!، نسأل ربنا الرحيم الكريم أنَّ يعافينا من ذلك منه وكرمه.

وروى أبو يعلى وأحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال من حديث: (ومن مات مدمن الخمر سقاه الله جل وعلا من نهر الغُوطة، قيل وما نهر الغوطة؟ قال نور يجري من فروج المومسات - الزانيات - يؤذي أهل النار رح فروجهم).

شرب الخمر ذنب صعب وشديد، لأنَّ الخمر أم الخبائث، من شرها ذهب عقله وأصبح لا يميِّز، فاذا قيل لك إنه فعل من المحظورات حتى الكفر بأي نوع من أنواعه فصدق الخبر ولا تكذبه، ولذلك ورد أنَّ مدمنها كعابد الوثن.

هذا الذنب العظيم أخبر الحديث أنَّ من عذابه الممتاز الشديد أنَّ يسقى مقترفه من النهر الذي يسيل من فروج الزناة، وإذا كان شرب ما يسيل فقط من تلك الفروج عذاباً ممتازاً فكيف بالعذاب الذي بينبوع ذاك السائل؟

وأرجوك أن تُفكر طويلاً في مقدار ما تحمل فروج الزناة من الأذى حتى يتكون مما يسيل منه نهر يجري في جهنم، ولعلك جربت الآلام المبرحة التي تنشأ عن قطرة من الأذى في بثرة من البثرات، فكيف بالأذى الذي يسيل سيلاً ويكون نهراً.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء فاذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان فإن تاب رد عليه) رواه أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي واللفظ له، وجاء في هذا المعنى غير حديث.

ومن هذا ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وهذا بظاهره ينفي الأمان عن الزاني فيكون كافراً من أهل النار الأبدية إن توفي مصمماً على التمادي على هذا الذنب العظيم، وفي ذلك من الردع والزجر عن هذه الفاحشة ما فيه تبصرة لذوي النهى، ويمكن بسهولة أن يطبق هذا الحديث على كثير من الخلق، فإنَّ أحدهم إذا ظفر بهذه اللذة لا تسعه الأرض ولا السموات من شدة فرحه، ويقتحمها بهذا الفرح العظيم لا يخطر على باله تحريمها عليه أيّ خطور، بل يفعلها مستملحاً مستبيحاً استباحة تقلُ عنها استباحة الرجل لزوجه، وهذا وأمثاله لاشك في كفرهم فإنَّ استباحة الحرام كفر قطعاً، فكيف بمن ينضم إلى استباحته ذلك الفرح الهائل، ولا مانع أن يراد من الإيمان في الحديث الإيمان الكامل الذي يترتب عليه ما يقتضيه، فلا ينافي أن يكون الزاني مؤمناً ولكن مع الغفلة التي تجعل الناظر إليه لا يفرّق بينه وبين الكافر في جرأته على المعاصي وفرحه بها فرحاً شديداً لأنها هواه ومحبوبه.

وعلى كل حال الحديث مرعب مذهل للزناة الذين يتهمون ويعقلون عواقب الأشياء.

والزنا تختلف درجاته في غلظه، فليس هو في امرأة الكافر الهارب مثله في امرأة المعاهد، وليس هو في المرأة المعاهد مثله في امرأة المسلم، وليس هو في امرأة مطلق مسلم مثله في امرأة الجار، وليس هو في امرأة الجار مثله في امرأة الجار القريب، وامرأة الأقرب أشد من امرأة القريب، وامرأة المجاهد أشد من امرأة غيره، وغير ذات الزوج ليس الزنا بها كالزنا بذات الزوج، وهكذا، نبهنا إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره) رواه أحمد والطبراني.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، ما من رجل من القاعدين تخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وقف يوم القيامة فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى، ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ماظنكم). رواه مسلم وأبو داود.

إنَّ الظن بمن حُكِّم في حسنات إنسان في ذلك اليوم الرهيب لِحَقٍ هو الزنا - أنه لا يترك من حسناته حسنة واحدة، وانظر أنت مصير من لا حسنة له!!، كما أنَّ زنا الشريف أعظم إثماً من زنا الوضيع، وزنا الجاهل لم يقل أحد أنه كزنا العالم، وزنا الشاب ليس في التقدير كزنا الشيخ العجوز.

أفادنا هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر) رواه الطبراني والنسائي.

وفي هذا القدر كفاية اليوم، ولنا عودة إلى هذا الموضوع إن شاء الله، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من كتاب النهضة الإصلاحية للأسرة المسلمة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين