لمحات حول الإعلام في الإسلام (6)

الأصل في مجتمع الأمَّة المسلمة أن ينطلق في كل تصرفاته العمليَّة من عقيدة التوحيد ملتزماً بالنظام الذي شرعه الله تعالى للأفراد والجماعات والسلطات.

ولقد جاء الإسلام بتشريع كامل يكفل الحياة الكريمة للجميع فهو ينظّم علاقة الفرد بالفرد ثم علاقة الفرد بالمجتمع - وقد ميَّز مجتمعنا بميزات خاصَّة وأحاطه بسياج خاص وجعل له حدودا يسعد مادام داخلها، ويشقى إن حاول الخروج منها - بل إنه يتورط في الشرور والآثام ويفقد سعادته إن تعصاها، تماماً كما حدث في المجتمعات الأخرى شرقاً وغرباً، فهم لم يستطيعوا تحقيق السكينة للنفس البشريَّة أو الاطمئنان أو الأمن.

ولم يستطيعوا أن يحققوا السعادة للأسرة الواحدة أو التماسك لأفرادها مع أنهم وصلوا إلى القمر وطافوا حول الأرض واستخدموا سلطان العلم في كافة نواحي الحياة.

وإني أحمد الله على ما أفاء به سبحانه علينا من فضل وما وضعه لنا من حدود ونرجوه أن يوفقنا فيما نحن بصدده من دراسات واقتراحات وتوصيات - أرجو أن تأخذ طريقها للتنفيذ وأن تؤتي ثمارها في القريب بإذنه تعالى.

وأول ما أراهُ واجباً علينا بهذا الصدد هو تحديد المضمون المطلوب للإعلام الإسلامي في هذه الفترة والرأي عندي أن يشمل هذا المضمون على مواد تهدف إلى أمور رئيسية:

أولاً: ترسِّخ القيم والمثل العليا المستمدَّة من الشريعة الإسلامية في عقول وقلوب أبناء الأمة الإسلاميَّة خاصَّة الشباب من الجنسين.

ثانياً: الدعوة إلى التمسك بالمبادئ والأهداف الإسلامية في مواجهة التيارات المادية الملحدة التي تسود العالم هذه الأيام.

ثالثاً: شرح الحقائق والمواقف التي تؤكد سماحة الإسلام واعتداله وتوسطه في الأمور بين التفريط والإفراط وحرصه على سعادة الإنسان.

رابعاً: تأكيد مسؤولية الشباب عن بناء المستقبل للمجتمع الإسلامي الذي يقوم على أساس الشريعة الإسلامية ويأخذ بأحدث منجزات العلم والتكنولوجيا العالمية.

خامساً: بيان أنَّ الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها هي فطرة طيبة خيرة وإذا كانت النفس تجنح أحياناً إلى العكس فالأوامر الإسلامية والنواحي تستهدف تنمية الجوانب الخيرة وردع النزعات الشريرة أو إبدالها أن لم يمكن التسامي بها.

سادساً: دعوة المرأة إلى المساهمة في تحقيق المبادئ والمُثل العليا المستمدة من الشريعة الإسلامية من خلال تربيتها لأولادها وتنشئتهم التنشئة الصالحة على أساس من هذه المبادئ والأهداف.

سابعاً: إيضاح المسؤوليات الكبرى الملقاة على عاتق كل فرد من الأمة المسلمة تجاه غير المسلمين كداعية مُكلَّف بالتبليغ والتثقيف والتوجيه والإرشاد ومسؤوليته في الوفاء بالهدف كقدوة حسنة في القول والفعل والسلوك.

وهنا تبرز أهمية وسائل التنفيذ، ويتضح لنا مدى الحاجة إلى العديد من الخبرات والطاقات البشرية لتمكِّنه من مختلف الدراسات العلمية والفنية والأدبية.

خاتمة:

الإعلام الإسلامي هو كل إعلام يلتزم بالإسلام منهجاً وسلوكاً وإن تعددت الوسائل الفنية التي يستخدمها. وهو في منهجه وإطاراته. هو الإعلام الذي يهدف أول ما يهدف إلى العمل على بثِّ المفاهيم والقيم الإسلامية وترسيخها في نفوس الناشئة بصورة خاصَّة، والمجتمع بصورة متكاملة.

وهو إعلام يُعنى بالتصورات الإسلامية في كل ما ينشره أو يذيعه أو يصوِّره، ولا حرج في أن يستخدم كل وسيلة فنية أو تقنية في هذا المضمار مادام ملتزماً بالمنهج ومحققاً لأهدافه الأساسية، ومن واجبه أن يكون قريباً من المجتمع، يناقش قضاياه ومشاكله، وأن يتحدَّث إلى الناس بلغة يفهمونها، كما أنَّ من واجبه أن يتصدَّى للدفاع عن قضايا الأمَّة، وصدِّ كل من يحاول تشويه القيم أو المفاهيم الإسلاميَّة أو النيل منها.

والوسائل الفنية متاحة للاستخدام في الحق والباطل على السواء، ولا شكَّ أنَّ إهمالنا لاستخدام أحدث الوسائل الفنية الإعلامية يعتبر تقصيراً وليس إخلاصاً وقد أمرنا الله تعالى بالجهاد، والإعلام لون من الجهاد أُمرنا أن نستخدم كل عدَّة ممكنة، وسبحانه حيث يقول: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60].

«ونحن لو نظرنا إلى الوسائل الإعلاميَّة في بلاد المسلمين لوجدنا بأنَّ المسلمين قد أخذوا منها موقفاً غريباً منذ البداية، فقد تأخَّر استخدام الطباعة العربية في الآستانة مائتي سنة؛ لأنَّ شيخ الإسلام أفتى ضد الطباعة بالأحرف العربيَّة، مع أنه سمح لأتباع الملل الأخرى بالطباعة بلغاتها، وحتى بعد أن سمح بالطباعة العربية اشترط عدم طبع الكتب الدينيَّة بها كما لو أن هناك شيء اسمه كتاب ديني وآخر لا ديني مما أعطى الفرصة للأفكار العلمانية أن تجد مجالاً أفسح للدخول والانتشار.

وما يقال عن الطباعة يمكن أن ينطبق على بقية الوسائل الأخرى كالإذاعة والتلفزة والخيالة والشرائط المسموعة «الكاسيت» و«الفيديو».

ونحن كأمة راشدة نستطيع أن نختار وأن ننتقي من الوسائل ما نخدم به الدعوة وقد تأخر استخدامنا لهذه الوسائل حتى أصبحنا عالة على غيرنا» [رسائل الإعلام المعاصرة - علي رمضان أبو زعلوك].

وهناك حقيقة هامَّة وهي أنَّ منطلق الإعلام في البلاد المسلمة لابدَّ أن يكون منطلقاً إسلامياً، وليس مجزءاً. بمعنى أن تصدر صحيفة أو مجلة تلتزم بهذا المنهج في وقت تتصادم فيها جهودها مع بقية الصحف أو المجلات في المجتمع وليس هذه من قبيل الاعتراض على التخصص.

وهو منهج أحبذه وأدعو إليه دائماً، ولكن المهم أن يكون تكامل لا تصادم، وتعاون لا تعاند، ولابدَّ أيضاً أن تكون أوعية الإعلام الإسلامي على درجة كبيرة من التشويق والإتقان والمظهر الحسن بالإضافة إلى مخبرها وإلا انصرف عنها الشباب. وربما مع مضي الزمن، حتى الشيوخ وتبقى هي في واد والمجتمع في واد آخر.

ودور وسائل الإعلام الإسلاميَّة دور حساس لأنه مؤثر في النفس، وعليه مسؤولية العناية بالغرائز وتوجيهها وجهة الخير. وعليه أن يتحسَّب لأبعاد وأغوار النفس البشرية، وهذه أمور تحتاج إلى خبرة ومعرفة. ولابدَّ من حسن استخدام أساليب الترغيب والتشويق بكل أشكالها وألوانها في إطار المنهج، ولابدَّ أن يعرف رجل الإعلام كيف يَنْفذ إلى النفس، وشدّ المستمع أو القارئ أو المشاهد إليه.

ولعله من الخطأ الفادح أن يتصوَّر البعض أن الإعلام الإسلامي هو مواعظ وخطب كخطب المنابر والساحات العامة.

وعلى أجهزة الإعلام مسؤولية كبرى في أن تكون رائدة وليس تابعة، وأن تخرج من دائرة الحصار الأجنبي إلى مفهوم سوي ومنهج أصيل، وأن لا تعتمد على مؤسسات الإعلام الأجنبي اعتماداً كلياً، وربما تلقائياً عفوياً بدون فحص أو تدقيق.

ولعل أخطر المراحل التي مررنا بها كانت يوم كنا نعتمد على شبكات الأخبار ووكالاته كمصدر رئيسي لأخبار إعلامنا عموماً، وهي شبكات ووكالات لها ميولها وأهدافها ومواقفها المليئة بالدسِّ في بعض الأحيان. وقد كنا نلوم الصهيونية أو حضاراتنا عموماً. وكان الواجب أن نلوم أنفسنا. فالفاعل شيء. والقابل شيء آخر.

ولولا أنَّ هؤلاء القوم وجدوا القابل عندنا لما استطاعوا أن يكيدوا هذا الكيد، ولولا ضعفنا وغفلتنا لما حققوا شيئاً من أهدافهم. كنا قد رضينا بالتبعية لهم فكانت تلك النتائج مُتوقعة. ونسأل الله أن يتم الخلاص من دائرة هذه التبعية بصورة نهائيَّة.

ولعل الوقت قد حان لكي ندرك الارتباط الوثيق بين الإعلام والتعليم والأسرة والدعوة والإرشاد، وأهمية التنسيق بين الجهود المختلفة والعمل على أن تكون جهودا متناسقة، متعاونة، متكاتفة، وليست متعاندة متصادمة، وأن يكون هدفها واحد وغايتها واحدة.

وأول الواجبات هي إدراك أنَّ دور الإعلام متمم لدور المسجد ورسالته، ومن الصعب أن نتصوَّر إقبال الإعلام على قبول توجيهات المسجد، والأخذ بها والانتفاع بهديها إلا إذا أحسوا بالثقة فيهم وبصدق توجيههم، وبالتقارب والتآلف والتعاطف معهم وفهم مشاكلهم، فإذا فقد رجال الإعلام الثقة في رجال المسجد أو يتهمونهم بما ليس فيهم. فإنه عندها تفقد الثقة وتتوسع الهوَّة. ويضيع الجيل بين عناد المعاندين وتزمُّت المتزمتين أو انحلال المنحلين، وتحصل الفتنة وتتهيأ الفرص المناسبة لأعداء الأمة - ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا - أن يشعلوا نار الفتنة ويواصلوا كيدهم في تمزيق الصفوف لكي يصلوا بنا إلى نقطة لا عودة فيها ويوغروا صدور قوم مؤمنين.

ولهذا وجب على العلماء في المسجد إدراك خطورة هذا الأمر وأبعاد هذه الفتنة، ولنا في رسول الله قدوة حسنة حيث يقول الله سبحانه في حقه: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159] ، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125].

وأحسب أنَّ من الواجب مخاطبة الناس على قدر عقولهم وتفهم طبيعة المشاكل التي يعاني رجال الإعلام منها، ويشاركوهم في حلها، وأن يسددوا ويقاربوا في إطار المنهج الذي ارتضيناه جميعاً ليحكم سلوك حياتنا.

وإني - بكل صراحة - أشعر اليوم أنَّ الهوَّة قد اتسعت حتى لتكاد تصبح سحيقة بين رجال الإعلام وبعض العلماء من يتهم رجال الإعلام بالفساد والتسيب والانحلال، وربما الزندقة والفجور. وبالمقابل يتهم رجال الإعلام هؤلاء العلماء بالتزمت والجمود والسطحية في الحكم.

وأحسب أيضاً أنَّ الوقت قد غدا مُناسباً للقاءات خيرة بين كل الفئات للاتفاق على منهج قويم نخرج به الجيل من حيرته. والأمَّة من محنتها ولابدَّ أن نتعاون على أن تبقى للمسجد كلمته، وقوته، وتوجيهه القويم في وعي وحكمة. وأن نحترم رأيه في قضايانا الإعلامية وسلوك أجهزتنا مستنداً على إدراك دقيق وموضوعي لطبيعة العمل الإعلامي في بلادنا الإسلامية ومشاكله، وتفهم لأبعاد التحدي والغزو الذي تواجهه الأمة بكاملها، وأن لا تنشغل بصدمات وخلافات جانبية عن المعركة الحقيقية التي نحن بصدد خوضها والتي تستهدف النيل من عقيدتنا ومبادئنا وأخلاقنا وقيمنا.

ونحن لا ندعو إلى إسلام عصري، فالإسلام واحد ولا مبدِّل لكلمات الله ومنهجه السماوي ولا لسُنَّة رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم، ولكننا نطالب بأسلوب عصري يتفهَّم أبعاد المرحلة التي نمرُّ بها، خصوصاً وقد دخلنا إلى عصر الأقمار الصناعية وأصبح الفنيون يتحدثون عن إمكانات الفترة القادمة عندما يتصل العالم ببعضه بصورة أوثق وتصبح من الميسور مشاهدة ألوان من البث التلفزيوني في أنحاء المعمورة في وقت واحد وفي كل مكان، ويغدو من الصعب حجب هذه الفتن عن شباب الأمة وغيرهم أو حجبهم عنها.

فلابد من الحوار الهادف البنَّاء، والعمل الجاد والتعاون المثمر وقبل كل شيء لابدَّ من وجود الثقة المتبادلة بين العاملين في الدعوة وفي الإعلام ولابدَّ من تكاتف جهودهم وعدم تصادمها وإنني مُتفائل إن شاء الله من لقاء كهذا يتحاور فيه الجانبان ويتناقشون في هدوء وموضوعية، وقد كنا نشاهد في السابق مؤتمرات لرجال الإعلام لا يحضرها العلماء مع أنهم يبحثون قضايا تهم المنهج الذي ننشده جميعاً، والهدف الذي تسعى اليه، وبالمقابل مؤتمرات للعلماء يبحثون نفس الموضوعات ويشجبون فيها الأعمال الإعلامية ورجالها. والمحصلة لكل هذا فتنة تمزق الأمة وتضعف قوتها، وتزعزع كيانها، ويحصد أعداء أمتنا الإسلامية نتائجها.

بارك الله لقاءكم وسدَّد خطاكم، وهدى الله على أيديكم حيرة الدنيا حتى تكون كلمة الله هي العليا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحلقة السابقة هــنا

المراجع

1 - السيرة لابن هشام

٢- الأسس العلمية النظريات الإعلام، دكتورة جيهان أحمد رشتى، دار الفكر العربي الطبعة الثانية) 1979.

3- الإعلام والتنمية، دكتور محمد سيد محمد، مكتبة كمال الدين (الطبعة الأولى) 1978م.

4- بحوث الإعلام - الأسس والمبادئ، دكتور سمير محمد حسين مؤسسة دار الشعب (الطبعة الأولى) 1979م

5- الإعلام الدولي بين النظرية والتطبيق، الدكتور محمد علي العونس مكتبة الانجلو المصرية الطبعة الأولى 1978م

6- وسائل التعليم والإعلام، دكتور فتح الباب عبد الحليم سيد، دكتور إبراهيم مخائيل حفظه الله عالم الكتب (الطبعة الثانية) 1979م

7- الإعلام في صدر الإسلام، الدكتور عبد اللطيف حمزة، دار الفكر العربي.

8- المعادلة الحرجة، الدكتور محمد عبده يماني.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية - الدوحة – محرم 1400هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين