نبي الرحمة (41)

المرحلة الثالثة:

وهي آخر مرحلة من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، تمثل النتائج التي أثمرتها دعوته الإسلامية بعد جهاد طويل ومتاعب وقلاقل وفتن واضطرابات ومعارك وحروب دامية، واجهتها طيلة بضعة وعشرين عاماً. وكان فتح مكة هو أخطر كسب حصل عليه المسلمون في هذه الأعوام، تغير لأجله مجرى الأيام، فقريش كانت في نظر العرب حُماة الدين وأنصاره، والعرب في ذلك تبع لهم، فخضوع قريش يعتبر القضاء الأخير على الدين الوثني في جزيرة العرب. ويمكن أن نقسم هذه المرحلة إلى صفحتين:١-صفحة المجاهدة والقتال. ٢-صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق الإسلام. وهاتان الصفحتان متلاصقتان تناوبتا في هذه المرحلة، ووقعت كل واحدة منهما خلال الأخرى.

غزوة حُنَيْن:

إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة شَدَهَ لها العرب، وبوغتت القبائل المجاورة بالواقع، الذي لم يكن يمكن لها أن تدفعه، ولذلك لم تمتنع عن الإستسلام إلا بعض القبائل الشرسة القوية المتغطرسة، وفي مقدمتها بطون هوازن وثَقِيف، واجتمعت إليها نَصْرٌ وجُشَمٌ وسعد بن بكر وناس من بني هلال، واجتمعت إلى مالك بن عوف النَّصْري، وقررت المسير إلى حرب المسلمين.

مسير العدو ونزوله بأوْطَاس:

لما أجمع القائد العام- مالك بن عوف- المسير إلى حرب المسلمين ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فسار حتى نزل بأوْطَاس- وهو واد في دار هوازن بالقرب من حُنَيْن، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات.

مجرب الحروب يُغَلِّط رأي القائد:

اجتمع إليه الناس بأوطاس، وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ- وهو شيخ كبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً- قال دريد: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نِعْمَ مجال الخيل، لاحَزْنٌ ضَرسٌ، ولا سَهْلٌ دَهِس، مالي أسمع رُغَاء البعير ونُهَاق الحمير وبُكَاء الصبي وثُغَاء الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم، فدعا مالكاً وسأله عما حمله على ذلك، فقال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيئ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك. ثم قال: يا مالك إنك لم تصنع بتقديم بَيْضَة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم، ثم الْقَ الصُّبَاة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. ولكنّ مالكاً رفض هذا الطلب قائلاً: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعني هوازن أو لأتَّكِأنّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنِي. وجاءت العيون وقد تفرقت أوصالهم إلى مالك وكان قد بعثهم للإستكشاف. قال: ويلكم، ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيل بُلْق، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى. ونقلت الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمسير العدو، فبعث أبا حَدْرَد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم، ففعل.

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يغادر مكة إلى حُنَيْن:

في ٦شوال ٨هـ. غادر صلى الله عليه وآله وسلم مكة- وكان ذلك اليوم التاسع عشر من يوم دخوله في مكة- خرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين، عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة، وألفان من أهل مكة، وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام، واستعار من صفوان بن أمية مائة درع بأداتها، واستعمل على مكة عَتَّاب بن أسيد. ولما كان عشية جاء فارس، فقال: إني طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم، فتبسم صلى الله عليه وآله وسلم وقال:(تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله)، وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي مَرْثَد الغَنَوي. وفي طريقهم إلى حنين رأوا سِدْرَة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنْوَاط، كانت العرب تعلق عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها ويعكفون، فقال بعض أهل الجيش للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال:(الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، إنها السَّنَنُ، لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم). وقد كان بعضهم قال نظراً إلى كثرة الجيش: لن نُغْلَبَ اليوم، وكان قد شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الجيش الإسلامي يباغت الرماة والمهاجمين:

انتهى المسلمون إلى حُنَيْن ليلة الثلاثاء١٠ شوال، وكان مالك بن عوف قد سبقهم وفرّق كُمَنَاءه في الطرق والمداخل والشعاب والأخباء والمضايق، وأمرهم بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا، ثم يشدّوا شدّة رجل واحد. وبالسَّحَر عبأ صلى الله عليه وآله وسلم جيشه، وعقد الألوية والرايات وفرّقها على الناس، وفي الصبح استقبل المسلمون وادي حنين وانحدروا فيه، وهم لا يدرون بكمناء العدو في مضايق الوادي، فبينما هم ينحطون إذا بالنبال تمطر عليهم، وشدّت عليهم كتائب العدو شدّة رجل واحد، فانشمر المسلمون راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وكانت هزيمة منكرة، حتى قال أبو سفيان بن حرب وهو حديث عهد بالإسلام: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر- الأحمر- وصرخ جَبَلَةُ أو كَلَدَةُ بن الحَنْبَل: ألا بطل السحر اليوم. وإنحاز صلى الله عليه وآله وسلم جهة اليمين وهو يقول:(هَلُمُّوا إليّ أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله) ولم يبق معه إلا عدد قليل من المهاجرين وأهل بيته. وحينئذ ظهرت شجاعته صلى الله عليه وآله وسلم التي لا نظير لها. فقد طفق يركز بغلته قِبَلَ الكفار وهو يقول:(أنا النبي لا كَذِبْ أنا ابن عبد المطلب) وأبو سفيان بن الحارث كان آخذاً بلجام بغلته، والعباس بركابه يكفانها أن لا تسرع. ثم نزل صلى الله عليه وآله وسلم فاستنصر ربه قائلاً:(اللهم أنزل نصرك). وأمر صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس- وكان جهير الصوت- أن ينادي الصحابة قال العباس: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السَّمُرَة؟ قال: فو الله لكأنّ عَطْفَتَهُم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لَبَّيْكَ يا لَبَّيْكَ. ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله, فيؤم الصوت، فاجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس واقتتلوا. وصرفت الدعوة إلى الأنصار، يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الآخرى كما كانوا تركوا الموقعة. وتجالد الفريقان، ونظر صلى الله عليه وآله وسلم إلى ساحة القتال، وقد استحرّ واحتدم، فقال:(الآن حمي الوطيس). ثم أخذ صلى الله عليه وآله وسلم قبضة من تراب الأرض، فرمى بها في وجوه القوم وقال:(شاهت الوجوه)، فما خلق الله إنسانا إلا ملأ عينيه تراباً من تلك القبضة.

انكسار العدو وهزيمته الساحقة:

وما هي إلا ساعات قلائل- بعد رمي القبضة- حتى انهزم العدو، وقتل من ثقيف وحدهم نحو السبعين، وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلاح وظُعُن. وأشير للمعركة في قوله تعالى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِين وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ} [التوبة:٢٥-٢٦].

حركة المطاردة:

لما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نَخْلَة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقودهم أبو عامر الأشعري، فتناوش الفريقان القتال قليلاً، وانهزم المشركون، وقتل القائد أبو عامر الأشعري. وطاردت طائفة من المسلمين المشركين الذين سلكوا نَخْلَة، فأدركت دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقتله ربيعة بن رُفَيْع. وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف؛ فتوجه إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه بعد جمع الغنائم.

الغنائم:

كانت السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفاً، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، أمر صلى الله عليه وآله وسلم بجمعها، ثم حبسها بالجِعْرَانَة، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري، ولم يقسمها حتى فرغ من غزوة الطائف.

وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية، أخت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة، فلما جيء بها عرفت له نفسها فعرفها بعلامة فأكرمها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ثم منّ عليها، وردّها إلى قومها.

غزوة الطائف:

إن معظم فلول هوازن وثَقِيف دخلوا الطائف مع قائدهم مالك بن عوف النَّصْرِي وتحصنوا بها، فسار إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فراغه من جمع الغنائم. وقدّم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، ثم سلك صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف، فمر في طريقه على النخلة اليمانية، ثم على قَرْنِ المنازل ثم على لِيَّةَ، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه، ثم واصل سيره حتى انتهى إلى الطائف فنزل قريباً من حصنه، وفرض عليهم حصارا دام مدة غير قليلة اختلفت فيها الروايات من بضعة عشر يوماً إلى أربعين يوماً، وأول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رميا شديداً، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقُتل منهم اثنا عشر رجلاً، واضطروا إلى الإرتفاع عن معسكرهم إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك. ونصب صلى الله عليه وآله وسلم المنجنيق على أهل الطائف وقذف به القذائف، حتى وقعت شدخة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة، ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالاً. ونادى مناديه صلى الله عليه وآله وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليهم ثلاثة وعشرون رجلاً فيهم أبو بكرة- تسور حصن الطائف وتدلى منه ببكرة مستديرة يستقي عليها، فكناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أبا بكرة)- فأعتقهم صلى الله عليه وآله وسلم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن. ولما طال الحصار، واستعصى الحصن، استشار صلى الله عليه وآله وسلم نوفل بن معاوية الدِّيلي فقال: هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، فعزم صلى الله عليه وآله وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس: إنا قافلون غداً إن شاء الله فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(اغدوا على القتال) فغدوا فأصابهم جراح، فقال:(إنا قافلون غداً إن شاء الله) فسُرّوا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يضحك. ولما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا: (آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون). وقيل: يا رسول الله ادع على ثقيف، فقال:(اللهم اهد ثقيفاً وآت بهم).

قسمة الغنائم بالجِعْرَانَة:

عاد صلى الله عليه وآله وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف، ومكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم ويتأنى بها، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين، فيحرزوا ما فقدوا، ولكنه لم يجئه أحد، فبدأ بقسمة المال ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي وحظي بالأنصبة الجزلة.

وأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل، فقال: ابني يزيد؟ فأعطاه مثلها، فقال: ابني معاوية؟ فأعطاه مثلها، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى فأعطاه إياها. وأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل ثم مائة ثم مائة، وأعطى الحارث بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل، وكذلك أعطى من رؤساء قريش وغيرها مائة مائة من الإبل، وأعطى آخرين خمسين خمسين وأربعين أربعين حتى شاع في الناس أن محمداً يعطي عطاءً، ما يخاف الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال:(أيها الناس ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً). ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين إصبعه، ثم رفعها، فقال: (أيها الناس، والله مالي من فيئكم، ولا هذه الوبرة إلا الخُمس، والخُمس مردود عليكم). وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس، ثم فرضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربعاً من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً ومائة شاة.

الأنصار تَجِد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

كانت قسمة الغنائم مبنية على سياسة حكيمة، ولكنها لم تفهم أول الأمر، فأطلقت ألسنة بالاعتراض. وعن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى صلى الله عليه وآله وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: (فأين أنت من ذلك يا سعد؟) قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي: قال: (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة) فخرج سعد فجمع الأنصار في الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم صلى الله عليه وآله وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثُمَّ قال:(يا مَعشَرَ الأنْصارِ، ما قالَةٌ بَلَغَتْني عنكم، وجِدَةٌ وَجَدتُموها في أنْفُسِكم؟! أَلَمْ آتِكم ضُلَّالاً فهَداكمُ اللهُ؟ وعالةً فأغْناكمُ اللهُ؟ وأعداءً فألَّفَ اللهُ بيْنَ قُلوبِكم؟) قالوا: بَلِ اللهُ ورسولُه أمَنُّ وأفضَلُ، قال:(ألَا تُجيبونَني، يا مَعشَرَ الأنْصارِ؟) قالوا: وبماذا نُجيبُكَ يا رسولَ اللهِ؟ وللهِ ولرسولِه المَنُّ والفَضْلُ، قال:(أمَا واللهِ لو شِئتُم لَقُلتُم فلَصَدَقتُم وصُدِّقتُم، أَتَيتَنا مُكذَّباً فصَدَّقْناك، ومَخذولاً فنَصَرْناك، وطَريداً فآوَيْناك، وعائِلاً فآسَيْناك، أوَجَدتُم في أنْفُسِكم يا مَعشَرَ الأنْصارِ، في لُعاعةٍ من الدُّنيا، تَألَّفتُ بها قَوماً لِيُسلِموا، ووَكَلتُكم إلى إسْلامِكم، أفَلا تَرضَوْنَ يا مَعشَرَ الأنْصارِ، أنْ يَذهَبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبَعيرِ وتَرجِعون برسولِ اللهِ في رِحالِكم؟ فوالَّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيَدِه، لولا الهِجْرةُ لَكُنتُ امْرَءاً من الأنْصارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً وسَلَكَتِ الأنْصارُ شِعْباً، لَسَلَكتُ شِعْبَ الأنْصارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنْصارَ وأبْناءَ الأنْصارِ وأبْناءَ أبْناءِ الأنْصارِ!) قال: فبَكى القَومُ، حتى أخْضَلوا لِحاهُم، وقالوا: رَضِينا برسولِ اللهِ قَسْماً وحَظّاً، ثُمَّ انصَرَفَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم، وتَفَرَّقوا.

قدوم وفد هوازن:

بعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلماً، وهم أربعة عشر رجلاً، ورأسهم زُهَيْرُ بْنُ صُرَدَ، وفيهم أبو بُرْقَان عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة، فأسلموا وبايعوا، ثم قالوا: يارسول الله، إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات وهن مخازي الأقوام. فقال:(إن معي من ترون، وإن أحب الحديث إلي أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟) قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً. فقال:(إذا صليت الغداة- أي صلاة الظهر- فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد إلينا سبينا) فلما صلى الغداة قاموا فقالوا ذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس) فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الأقرع بن حابس، أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عُيَيْنَة بن حِصْن‏: أما أنا وبنو فَزَارَة فلا. وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سُليم فلا. فقال بنو سُليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال العباس بن مرداس: وهنتموني. فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن هؤلاء القوم قد جاؤوا مسلمين، وقد كنت استأنيت سَبْيَهُمْ، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئاً. فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك، ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا) فقال الناس: قد طَيَّبْنَا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض. فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم) فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن فإنه أبى أن يرد عجوزاً صارت في يديه منهم، ثم ردها بعد ذلك، وكسا صلى الله عليه وآله وسلم السبي قبطيّة قبطيّة- والقبطيّة ثوب أبيض رقيق-.

العمرة والإنصراف إلى المدينة:

لما فرغ صلى الله عليه وآله وسلم من قسمة الغنائم في الجعرانة أهلّ معتمراً منها، فأدى العمرة، وانصرف بعد ذلك راجعاً إلى المدينة بعد أن ولي على مكة عتاب بن أسيد، وكان رجوعه إلى المدينة لست ليال بقيت من ذي القعدة ٨ هـ.

يتبع.......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين