آية الأسوة تتحدى

إنَّ آية الأسوة لتتحدّى! فلو نظرنا في قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [سورة الأحزاب]، لرأينا أنّها وهي تقدّم النبيّ صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنةً، هي الأحسن للمؤمنين والمؤمنات في كلّ شأن من شئون الحياة تحمل بذلك معنى التحدّي للناس كافّة أن يفتّشوا حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم الخاصّة والعامّة، وفي جميع أحواله: في حالات الرضا والغضب، والحرب والسلم، واليسر والعسر، والأمن الخوف.. وغير ذلك ممّا يعتري النفس البشريّة من أحوال وتقلّبات، وما يمرّ بها من ظروف ونوازل، فهل يجدون في شيء من ذلك ما لا يكون باباً للاقتداء والتأسّي.؟! ولاشكّ أن الأعداء المناوئين منذ عهد النبوّة، وإلى يومنا هذا لو أنّهم وجدوا شيئاً من ذلك لطاروا به فرحاً، وأعلنوا في كلّ نادٍ ومحفل: أن كيف يقتدى بنبيّ أو مدّع للنبوّة هذا شأنه ووصفه؟! ولكنّ الواقع يقول: إنّ كثيراً من المخالفين الناقدين، شهدوا بعد طول البحث والتحرّي شهادة الحقّ، ونطقوا بالصدق، وأعلنوا للناس كافّة: أنّ هذا النبيّ صلى الله عليه وسلم مبرّأ من كلّ نقيصة، معصوم من كلّ زلّة أو ريبة، وأنّه النموذج الأمثل للإنسانيّة الراقية أعلى درجات السموّ والكمال، لا يدانيه في ذلك بشر ولا يقاربه..

فهل عرفت الإنسانيّة فتىً أطهر سيرة، وأزكى سريرة، وأشرف نسباً، وأكرم حسباً، وأعظم خلقاً من مُحَمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.؟

لقد لقّبته قريش بالأمينِ، وشاع هذا اللقب بين رجالها، وأجمع على ذلك عقلاؤها، ولو عَرَفَت أحد زعمائها بذلك لما ضنّت عليه بتلك الصفة، واختصّت بها محمّداً صلى الله عليه وسلم من دونه.

ووصفته زوجه العاقلة الحكيمة، خديجة رضي الله عنها، وقد عاشت معه خمس عشرة سنة قبل النبوّة، خبرت خلالها شخصيّته وأخلاقه، فقالت له أول عهده برسالة السماء، وقد داخله الخوف مما جرى معه: " كلا! والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحقّ " (1).

وكان صلى الله عليه وسلم يعفو عمّن ظلمه، ويصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يقم لغضبه شيء.

ولقد أوذي صلى الله عليه وسلم في الله تعالى أشدّ الإيذاء، فلم يدع على قومه، ولم يتطلّع إلى الانتقام منهم، وإنما كان يقول: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (2).

وعندما ناله صلى الله عليه وسلم منهم من الأذى أشدّه عُرض عليه التعجيل بعذابهم وهلاكهم، فقال صلى الله عليه وسلم كلمته المشهورة: (.. لا بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً) (3).

إنّه صلى الله عليه وسلم أعظم إنسان لبس جلباب العبوديّة لله تعالى، ونعم بأكرم مراتبها، لقد شُغف قلبه الشريف بعبادة ربّه، والاستغراق في مناجاته وذكره، فكان يجتهد في التعبّد عبادة خشوع وخضوع، وخشية ودموع، وإخلاص في التوجّه إلى الله تعالى وابتغاء مرضاته، قام من الليل حتّى تفطّرت قدماه، وعندما قيل له: أتفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر.؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً.. ولم يمنعه اجتهاده في العبادة من أن يكون مبادراً إلى كل عمل في حينه، بدون تأخير يفقد العمل قيمته، أو تعجّل بالعمل قبل وقته..

لقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم جمعاً فريداً في التاريخ بين أعلى درجات النقاء الروحيّ بالاجتهاد في عبادة الله تعالى، وأعْلى درجات العمل والنشاط، دعوةً إلى الله تعالى، وتربيةً لأمّته، وخدمة لكلّ من قصده بخدمة أو نصرة، وجهاداً في سبيل الله، ودفاعاً عن المستضعفين، وبناءً لدولة الإسلام، وتنظيماً لشئونها، وتسييراً لمصالحها..

ومن أبرز خصاله الشخصيّة النادرة بين العظماء ذوي السلطان: مزيد التواضع والحياء، والعطاء والكرم، والبذل والإيثار..

وكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم بعده عن كلّ صور الأبهّة ومظاهر التعاظم، التي يتميّز بها في العادة الحكّام والرؤساء، ويحرصون عليها أشدّ الحرص؛ فكان يتساوى مع أتباعه في المأكل والملبس، والمظهر والمجلس، وما يقوم به من الأعمال البدنيّة، ويكره أن يتميّز عنهم في شيء.

وكان من إيثاره صلى الله عليه وسلم وزهده أنّه قد يأتيه ما يملأ الوادي من الأموال والغنائم والهدايا، فيوزّعه كلّه من فوره، ويبيت ليس عنده منه شيء..

ومن خصاله الشريفة النادرة صلى الله عليه وسلم: إذعانه للحقّ على نفسه، حتّى مع من يخالفه في الدين، ويعلن له العداوة والخصومة، ويدخل في هذه الخصلة الكريمة: صبره الجميل، واحتماله للأذى، وسعة صدره على إساءة الجهّال، وجفوة الأعراب.

ـ ومن أهمّ ما يميّز سيرته المثاليّة صلى الله عليه وسلم بين سائر العظماء: التزامه الشديد بالأخلاق التي يدعو إليها، التزاماً لا خروج عنه ولا استثناء، حتّى مع أعدائه، فلا تناقض في حياته، ولا اختلاف بين الدعوة والسلوك، فلم ينقض عهداً مع عدوّ، ولم يحاول غدراً بخصم، مهما كان يائساً منه، ويخشى غدره.. بل واجه غدر عدوّه في كثير من الأحيان بالحلم والصفح..

وكان صلى الله عليه وسلم قدوة للناس في كلّ ما يأمرهم به، وأبعد الناس في هديه وسيرته عن كلّ ما نهى الناس عنه.. ولن يستطيع هذا المبحث العاجل أن يلمّ بشيء من جوانب العظمة في شخصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه، بل حسبه أن يكون مدخلاً ومقدّمة مشوّقة لها..

 

هوامش

(1) رواه البخاريّ في حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها، في كتاب بدء الوحي برقم /3/، ومسلم في كتاب الإيمان برقم /231/.

(2) رواه البخاريّ في كتاب أحاديث الأنبياء برقم /3218/، ومسلم في كتاب الجهاد والسير برقم /3347/ عن عَبْدِ اللهِ بنِ مَسعُود رضي الله عنه.

(3) رواه البخاريّ في كتاب بدء الخلق برقم /2992/ ومسلم في كتاب الجهاد والسير برقم /3352/ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين