نبي الرحمة (40)

غزوة فتح مكة 3

تخوف الأنصار من بقاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مكة:

قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها- وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه- فلما فرغ من دعائه قال:(ماذا قلتم؟)قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم).

أخذ البيعة:

تبين لأهل مكة الحق حين فتحها الله للمسلمين، و أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام، فأذعنوا له، واجتمعوا للبيعة، فجلس صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا يبايع الناس، وعمر بن الخطاب أسفل منه، يأخذ على الناس، فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا. ولما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء، وعمر يبايعهن بأمره، ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعرفها، لما صنعت بحمزة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أبايعكنّ على ألاتُشركْن بالله شيئاً)، فبايع عمر النساء على ألايشركن بالله شيئاً. فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ولا تسرقن). فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من ماله هناتٍ؟ فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال، فضحك صلى الله عليه وآله وسلم وعرفها، فقال: (وإنك لهند؟) قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبيّ الله، عفا الله عنك. فقال:(ولا يزنين). فقالت: أو تزني الحرة؟ فقال: (ولا يقتلن أولادهن). فقالت: ربيناهم صغاراً، وقتلتموهم كباراً، فأنتم وهم أعلم- وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر- فضحك عمر حتى استلقى، فتبسم صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(ولا يأتين ببهتان). فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال:(ولا يعصينك في معروف). فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك. ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور.

إقامته صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، وعمله فيها:

أقام صلى الله عليه وآله وسلم بمكة تسعة عشر يوماً، يجدد معالم الإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الأيام أمر أبا أسيد الخزاعي، فجدد أنصاب الحرم- علاماته وحدوده- وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره.

السرايا والبعوث:

١- لخمس ليال بقين من رمضان ٨هـ بعد الفتح بعث صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى الْعُزَّى ليهدمها، وكانت بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني كنانة، وهي أعظم أصنامهم، وكان سدنتها بني شيبان، فخرج إليها خالد في ثلاثين فارساً حتى انتهى إليها فهدمها، ولما رجع سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم (هل رأيت شيئا؟)قال: لا قال:(فإنك لم تهدمها) فارجع إليها فاهدمها، فرجع خالد متغيظاً قد جرد سيفه، فخرجت إليه إمرأة عريانة سوداء ناشزة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها باثنتين، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال: (نعم، تلك العزى، وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبداً).

٢- بعث صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن العاص في رمضان ٨ هـ. إلى سواع ليهدمه، وهو صنم لهذيل برهاط، وعلى ثلاثة أميال من مكة، فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن: ما تريد؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قال: لم؟ قال: تُمنع. قال: حتى الآن أنت على الباطل؟ ويحك، فهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيه شيئاً، ثم قال للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.

٣-وفي نفس الشهر بعث صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارساً إلى مَنَاةَ، وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليها قال له سادنها: ما تريد؟ قال: هدم مَنَاةَ، قال: أنت وذاك، فأقبل إليها سعد، وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال لها السادن: مَنَاة دونك بعض عصاتك، فضربها سعد فقتلها، وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا في خزانته شيئاً.

٤-ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شعبان ٨ هـ إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام، لا مقاتلاً. فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار وبني سليم، فانتهى إليهم، فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون:(صبأنا صبأنا) فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم، ودفع إلى كل رجل ممن كان معه أسيراً، فأمر يوماً أن يقتل كل رجل أسيره، فأبى ابن عمر وأصحابه حتى قدموا على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فذكروا له، فرفع صلى الله عليه وآله وسلم يديه وقال:(اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) - مرتين-. وبنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون المهاجرين والأنصار، وبعث صلى الله عليه وآله وسلم علياً فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم، وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك، فبلغ صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فو الله لو كان أحد ذهباً، ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته).

تلك هي غزوة فتح مكة التي قضت على كيان الوثنية، وكانت القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه العراك الدائر بين المسلمين والوثنيين، لأنها تعرف أن الحرم يسيطر عليه من هو على الحق، ولهم في أصحاب الفيل عبرة. وصلح الحديبية كان مقدمة لهذا الفتح العظيم، أمن الناس به وكلم بعضهم بعضاً، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام، حتى إن عدد الجيش الإسلامي الذي لم يزد في الغزوات السالفة على ثلاثة آلاف إذا هو يزخر في هذه الغزوة في عشر آلاف. وفتحت أعين الناس وأزيلت عنها آخر الستور التي كانت تحول بينها وبين الإسلام. وبهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسي والديني كليهما معا في طول جزيرة العرب وعرضها، وانتقلت إليهم الصدارة الدينية والزعامة الدنيوية.

فالطور الذي بدأ بعد هدنة الحديبية لصالح المسلمين قد تم، وكمل بهذا الفتح المبين، وبدأ طور آخر كان لصالح المسلمين تماماً. ولم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيعتنقوا الإسلام ويحملوا دعوته إلى العالم.

يتبع.......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين