القائد الفذّ

بقلم: الشيخ نزيه مطرجي


إن مما شرعه الله وقضاه، وسنّه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وارتضاه، أن يكون لكلّ أمير عامّة ناصحوه وأهلُ شوراه, فالشورى من النُّظم الإلهيّة التي فرضها الله تعالى على الأمّة، فقد أمر الله تعالى نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فقال عزوجل: {فَاعفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُم وشاوِرْهُم في الأمر فإذا عَزمتَ فتَوَكَّلْ عَلَى الله} آل عمران: 159, فكان النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم وهو المؤيَّد بالوحي والهداية، يشاور أصحابه تأليفاً لقلوبهم وتطييباً لنفوسهم، وليكون في ذلك التشريعُ العمليُّ المُرشِد لكل والٍ وقائد.
رُوِيَ عن أبي هُريرة قوله: لم يكن أحد أكثر مشورةً لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم! (الترمذي). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة العليا والقدوة الفضلى لأصحابه ولأمته في خُلق المشورة، فقد شاورهم في وسيلة الإِعلام بدخول وقت الصلاة، وشاورهم في بدر وأين يكون المنزل، وشاورهم في أسرَى بدر، وشاورهم في أُحُد، وفي الخَنْدَق، وشاورهم في فكرة الصلح مع غَطَفان عند نشوب حرب الأحزاب، وشاوَرَهم في الحديبية....
وقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حَوارِيَّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووَزيريْ صِدْق لَه، قال لهما يوماً: «لو اجتمعتُما في مشورةٍ ما خالَفْتُكُما» رواه أحمد. وَوَرَد عن عليّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن العزم فقال: «مشاورة أهل الرأي ثم اتّباعُهم» رواه ابن مردويه.
إن المرء مهما كان غزير العلم، واسعَ الحِلم، لا بدّ من أن يتعرّض للضعف، وأن يقع في الجهل والنقص، وأن يُلْجِئهُ ذلك إلى أن يقصد ذوي العقل الرشيد، والرأي السّديد، ليستضيء بعلمهم، ويستنير بحكمتهم، ولا غَرْوَ أن احتمالات الخطأ والزَّلَل عند طائفة المستشارين الحكماء أقلُّ من احتمال الخطأ عند الرجل الفَرْد.
من في الأمة المباركة أرجح عقلاً وأهدى رأياً من الصحابيّ المحدَّث عمرَ بنِ الخطّاب رضي الله عنه؟ فهو الذي أخبر عنه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه ما سلَك فَجَّاً إلا سلك الشيطانُ فَجّاً غير فَجِّهِ فَرَقاً من عمر واتقاءً لبأسه! ورُغم هذا الذي امتاز به عمر، فإنه لم يستغنِ قَطّ عن المُشاورة!
فكان يدعو أهلَ شوراه كلما عَرَضت له مشكلات، واستعصت عليه مُعْضلات، مثلما فعل يوم خرج إلى الشام، وقد حلَّ فيها طاعون عَمْواس، فدعا المهاجرين والأنصار واستشارهم، فأشار عليه الأكثرون بالرجوع خوفاً على جيش المسلمين من هذا الوباء، فأخذ برأيهم، ورجع.
وقد جعل عمر مراجعة مشيخة بدر قاعدة أساسية في مشاورته، وقيمة عليا في مناصحته.
ولكن الأمة أُصيبت في هذا الزمان بوُلاة يرَوْن الاسترشاد بذوي الحِجى مَذَلَّة، والاستهداء بأُولي النُّهى مَذَمَّة، وكأنما لم يبلغهم أنه لو كان أحد مُستغنياً عن العلم لاستغنى الأنبياء والمرسلون، ولاستغنى موسى عليه السلام إذ قال للخضر: {هَل أَتَّبِعُك على أن تُعَلِّمَنِ مِما عُلِّمْتَ رُشْداً} الكهف: 66.
يقول الشاعر بشّار بنِ بُرْد:
ولا تجعلِ الشُّورى عليكَ غَضاضةً          فإنَّ الخَوافي قوةٌ للقوادمِ
لقد صرنا إلى زمن يرى فيه الكثيرون من القادة والزعماء أنهم أُعطوا من المواهب والطاقات ما يرفعهم إلى رتبة المُلْهَمين والمعصومين! وكأنَّ الوحي لم ينقطع بوفاة سيّد المرسلين!
والذي يجلب الهمّ، ويجرّ الغَمّ, أن كثيراً من الذين يقودون ويتزعّمون في وسط أهل الإيمان يقعون أحياناً في داء العُجْب والاستعلاء، يرى أحدُهم نفسه أنه قائد فَذّ لا يُجارَى ولا يُبَارَى، ولا يُناصَح ولا يُراجَع! وكأنّه الخليفة المنتظر، وظلّ الله على البَشَر!
لذلك تقصُر أعمارُ هذه الفئات، وينفرط سريعاً عَقْدُ هذه الجمعيات والأحزاب، لأنّها تموت بموت صاحبها أو بسقوطه وانحرافه!
قال عَلْقمة لصاحبه: لماذا يُعْرِضُ هؤلاء القادةُ الأفذاذ عن الأخذ بمبدأ الشورى الذي يجدونه صريحاً واضحاً في القرآن؟
قال مَيْسَرة: إن هذه الفئة من القادة المستبدّين قد أَخرجوا للناس بدعةً تتوارى خلفَها نزعتُهم الفرديّة، وذلك بزعمهم أن الشورى مُعلِمة وليست ملزِمة، وكأنهم يجهلون أن سيّد الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم وهو القدوة العُليا والأسوة الفُضْلى كان يُكثر من مشاورة أصحابه في أمور الحرب وفي شؤون الدنيا، وكان يأخذ بمشورتهم، وذلك تعليماً للأمّة، وإرشاداً للقادة  والأئمة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين