المنهج الخفي (في التربية)

محمد عادل فارس

قد يكون هذا العنوان غريباً على كثير من القراء. فلابد إذاً من بيان المراد منه أولاً، ثم ذكر خصائصه ونتائجه...

المنهج التربوي الذي يُعمل به في مختلف المؤسسات التربوية الرسمية والأهلية والحزبية، له أربع مكوِّنات، أولها: الأهداف، وثانيها: المحتوى، وثالثها: الأنشطة المرافقة، ورابعها: التقويم.
فإذا كانت الأهداف محددة واضحة (أو معروفة ضمنياً في أذهان المشرفين على التربية) فسيظهر أثرها يشكل حاسم في المحتوى، ثم في الأنشطة، ثم يكون التقويم هو الحَكَم في تحقيق الأهداف.

وإذا كان الهدف هو تغيراً سلوكياً إيجابياً قابلاً للقياس يظهر في شخصية التلميذ... فإن ما يفاجئ الإدارة التربوية أو المربي أو المجتمع، أن تظهر سلوكات في شخصيات هؤلاء التلاميذ لم تكن ملحوظة في الأهداف، بل قد تتعارض مع تلك الأهداف... وهذا يستدعي التفكير: كيف وُجدتْ هذه السلوكات؟ وما العوامل التي أدّت إليها؟! وهذا على حد قول القائل: "قد أعذرُ ولدي إذا جنح، ولكن أريد أن أعرف ما الذي دفع به إلى الجنوح؟".

والسلوكات التي نتحدث عنها هي التي لا تكون مرغوبة عند الجهات العليا التي توجّه العملية التربوية.
ونضرب على ذلك بعض الأمثلة:

- انتشار التدين، والمعالنة به، في ظل سياسة علمانية تريد إبعاد الدين عن التأثير في الحياة.

- نزعات التعصب للبلدة أو العشيرة أو الطائفة... مع أن المنهاج الرسمي لا يوجِّه نحو هذا التعصب، بل قد يوجِّه بخلافه.

- انتشار التدخين، أو تعاطي المخدرات بين التلاميذ. مع أن الكتب المدرسية تحذر من هذا وذاك.

- انتشار مفاهيم يرفضها المجتمع كله، فضلاً عن مخالفتها لأهداف المنهج، مثل وجود مجموعات عبادة الشيطان.

- الاقتناع بالمقاومة المسلحة، مع أن المناهج تدعو إلى خلاف ذلك.

- المفاهيم الغذائية الخاطئة، مع أن المناهج تبيِّن المفاهيم الصحيحة.
وفي هذه الأمثلة وغيرها، لا نتحدث عن حالة شاذة أو حالات فرديِّة نادرة، حتى نردّها إلى ظروف شخصية تحيط بالفرد الذي ظهرت فيه الحالة، إنما نتحدث عن ظاهرة اجتماعية تلفت الانتباه.
************

هذه الحالات استدعت الدارسين أن يفرِّقوا بين نوعين من المناهج:
النوع الأول: هو النوع المعروف الذي يتبادر إلى الذهن لدى ذكر كلمة المنهج، وهو المنهج الرسمي أو المكتوب أو الموصى به أو المدعِّم أو المتعلَّم أو المُخْتَبر...

النوع الثاني: هو المنهج الخفي أو المغطَّى أو الصامت أو المستتر أو الضمني أو غير الرسمي، أو النتائج الجانبية للتعليم...
وتعود جذور الإشارة إلى هذا المنهج الخفي إلى عهد أفلاطون. وما زال المربُّون في الثقافة الإسلامية وغيرها يشيرون إلى عوامله وآثاره... ولكن إظهاره للدراسة، وإعطاءه اسماً مستقلاً، إنما يعود إلى أواخر الستينيات من القرن العشرين على يد فريدنبرغ ثم فيليب جاكسون (1968).
وقد وضعت له تعريفات شتى، لعل أكثرها استقصاء هو الذي اعتمده الدكتور عبد الله الموسى في بحث نشره في مجلة "جامعة أم القرى" للعلوم التربوية والاجتماعية والإنسانية، عدد شوال 1420هـ، الموافق لكانون الثاني 2000م.
يقول هذا التعريف: "المنهج الخفي هو تلك المعارف والقيم والأفكار والأنظمة التي يتعلمها الطالب داخل المدرسة بدون تخطيط من المنظّرين أو المديرين أو المدرسين، نتيجة الاحتكاك بالأقران، أو نظام المدرسة، أو طرق التدريس المستخدمة، أو الفهم الذاتي للمعرفة".

ومما يعنيه هذا التعريف:
- أن السلوك الشخصي للمربي، وعلاقته بالمربين الآخرين، وعلاقته بالتلاميذ... يكون جزءاً من المنهج الخفي.

- وأن طريقة تناول المناهج المكتوبة لبعض المسائل قد تكون ضعيفة أو خاطئة فتؤدي إلى عكس المراد، أي أنها تكون جزءاً من المنهج الخفي.

- وأن نظام المدرسة بما يتضمنه من عدد ساعات الدوام، ومن توزيع تلك الساعات، ومن وجود فصل بين الجنسين أو اختلاط، ومن ضبط لنظام الثواب والعقاب أو تسيُّب فيه... يكون كذلك جزءاً من المنهج الخفي.

- وأن النظام الاجتماعي والسياسي السائد في المنطقة أو الدولة يؤدي إلى آثار جانبية في العملية التربوية، أي يكون جزءاً من المنهج الخفي. ومثال ذلك وجود صراعات حزبية أو طائفية أو قبَليِّة، أو كارثة بيئية، أو اقتصادية، أو اضطرابات سياسية وانقلابات عسكرية، وشيوع العدل أو الظلم (اجتماعياً أو سياسياً)...

- وأن المفارقة بين المنهج المكتوب وبين حاجات المجتمع تؤدي إلى آثار تربوية جانبية، وتكون جزءاً من المنهج الخفي (كأن يكرّس المنهجُ المكتوب فكرة الطاعة للسلطة الظالمة، أو يتحدث عن أهمية وجود الألعاب المتطورة والأجهزة الموسيقية في البيت، ويعلم صناعة المأكولات الفاخرة...مع أن التلاميذ يحسُّون بالفقر والحرمان ولا يجدون الطعام الصحي أو الملابس المناسبة...).

- ويقال مثل ذلك عن المفارقة بين الأهداف التربوية المعلنة، وبين المحتوى الذي ينبغي أن يجسِّد تلك الأهداف.

- وأن البناء المدرسي بما يحويه (أو يفتقده) من مسجد وملاعب ومختبرات ومكتبة وتدفئة وتهوية ومقاعد مريحة وحجم مناسب لغرفة الصف ولعدد التلاميذ فيها، وأجهزة كمبيوتر وقاعات للمحاضرات والأنشطة... هي من المنهج الخفي.

- وأن المربي، ودرجة تأهيله، ودرجة تفاعله مع العملية التربوية، وانسجام سلوكه مع الأهداف التربوية وإيمانه بها كل ذلك... من المنهج الخفي.

- وكذا استبدال مربٍّ بآخر، أو انتقال التلميذ من مدرسة إلى أخرى، أو من حي إلى آخر... وما يؤدي إليه من تغير في السمات الشخصية والبيئية والاجتماعية... يكون كذلك جزءاً من المنهج الخفي...

- ونذكر أخيراً أن تأثير المنهج الخفي قد يغلب تأثير المنهج الرسمي المعتمد في بعض الحالات، فيكون خفياً في مصادره وآليات تأثيره، لكن نواتجه تكون هي الأكثر ظهوراً للعيان، في المؤسسة التعليمية أو المجتمع بشكل عام.
هل يمكن أن يتضمن المنهج الرسمي منهجاً خفياً؟
قد نسارع إلى الإجابة بالنفي، فنقول: موضوع المنهج الخفي هو المعارضة للمنهج الرسمي، ومن التناقض إذاً الحديث عن منهج خفي في المنهج الرسمي!.
لا شك أن تلك الإجابة منطقية في الظاهر، ولكن أليس في الحياة البشرية كثير من التناقضات؟! ألا يمكن أن يكون لدى واضعي مناهج بعض المواد توجهات تعارض التوجهات لدى واضعي المناهج لمواد أخرى؟ وألا يمكن أن تكون الجهات العليا لإعداد المناهج مقتنعة بقيم معينة تريد تنشئة الجيل عليها، ولكنها مضطرة لمراعاة قيم سائدة في المجتمع، وتخشى من مصادمتها أو تجاوزها، فتضمّن المناهج ما يدعّم القيم السائدة، إلى جانب القيم التي تريد غرسها، وهي تتعارض مع تلك؟!
ومن أمثلة ذلك أن يكون التوجّه في المناهج علمانياً، يريد إبعاد الجيل عن التفكير الديني كليةً، ولكنّ مراعاة القيم الدينية السائدة تضطر واضعي المناهج إلى إعداد مادة للتربية الدينية، وبذلك يكون أثر كلٍّ من التوجيهين منهجاً خفياً تجاه التوجه الآخر!! أي أن ما يتلقاه التلميذ في الصنف الأول من المواد مناقضاً في أثره وتوجيهاته للصنف الثاني.

ماذا بعد؟!
بعدما تبين لنا مفهوم المنهج الخفي والعوامل المؤثرة فيه أو المكوِّنة له، أصبح من الممكن إلقاء الضوء على فائدة المعرفة بهذا المفهوم.

- تؤكد هذه المعرفة أهمية إعداد المربي ليكون صالحاً في نفسه، مستقيم السلوك، متفاعلاً مع الأهداف التربوية، والعملية التربوية.

- وأن تكون المناهج بأهدافها ومحتواها وأنشطتها وتقويمها متناسقة العناصر من جهة، ومتوافقة مع البيئة وحاجات المجتمع من جهة أخرى.

- وأن يراعى في الأبنية المدرسية وتجهيزاتها أن تكون في حال مناسبة (قدر المستطاع) وأن يكون ذلك متقارب المستوى بين مدرسة وأخرى.

- وأن يكون التفاعل الإيجابي الودي قائماً بين المربين والتلاميذ، وبين المربين وأهل التلاميذ... للتعرف على الأوضاع الاجتماعية والبيئية، والتعاون في حل المشكلات.

- وأن يكون الاهتمام بالقيم الروحية والأخلاقية... وبالتربية على مهارات التفكير الناقد...أكثر من الاهتمام بتقرير المحتوى.

- وأن تؤخذ آراء نخبة من المدرسين لدى رسم المناهج.

- وأن يفرِّق القائمون على التربية بين ضغوط الإدارة التربوية، وضغوط أولياء الأمور من جهة، وبين التعرف على حقيقة التطوير التربوي المطلوب.

- وأن لا ينساق المربون (ومعهم الإدارة التربوية) مع النزعة المظهرية والاستهلاكية على حساب تحقيق الأهداف التربوية في تلاميذهم، كأن يفرحوا بتزيين غرف الصف وبهو المدرسة بالملصقات والصور، وشهادات التقدير والصور، وأشكال الدفاتر والألوان... وهم يعلمون أن كثيراً منها خالٍ من الدلالة الحقيقية، وأن بعض ما يعرضونه على أنه إنتاج لتلامذتهم إنما هو مصنّع في السوق لدى الخطاطين والرسامين... أو بأيدي الأهلين...

- وهكذا وهكذا...فكلما استطعنا السيطرة على عناصر المنهج الخفي أمكننا ضبط "التسرب" في الأهداف التربوية، وضبط الأهداف التربوية ذاتها. وتحررنا من خداع أنفسنا حين نزعم أن العملية التربوية على ما يرام، ونأتي على ذلك بشهادات كثيرة، نعلم أن كثيراً منها مزوّر!.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين