الموجز في التاريخ: فتنة مسيلمة الكذاب

إن من أعظم ما واجهه المسلمون من المرتدين فتنةَ مسيلمة الكذاب، وأتباعه من أهل اليمامة، ولا سيما قومه: بني حنيفة؛ ذلك أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة لم يهاجر بعد، وبعد الهجرة؛ لـمَّا جاءت وفود القبائل إلى المدينة المنورة في السنة التاسعة للهجرة تعلن إسلامها؛ جاء وفد بني حنيفة، وفيهم مسيلمة الكذاب؛ فأسلموا إلا مسيلمة، الذي كان يطمع في الملك والرياسة، فقال: "إن جعل لي محمد الأمر بعده تبعته" فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته أقبل إليه، وفي يده قطعة جريد، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيك ما رأيت» (1).

بعد أن رجع مسيلمة إلى اليمامة؛ ادعى أنه أُشرك في النبوة، فتبعه قومه، بل لقد تجرَّأ الخبيث فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبلغه أن قد أشرك معه في الأمر؛ فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد النبي إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد؛ فإن الأرض لله، يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، والسلام على من اتبع الهدى» (2) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسوليْ مسيلمة: «وماذا تقولان أنتما؟» فقالا: نقول كما قال، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكم» (3).

لقد كان من أعظم ما فتن به الناس؛ غير ما كان يظهره مسيلمة من الخزعبلات والخرافات والكهنة؛ ما قاله الرَّجَّال بن عنفوة الحنفي؛ وهو رجل كان قد أسلم وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ شيئًا من القرآن، ثم أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة يستوضح أمره، ويخذل الناس عنه؛ وما إن وصل الرَّجَّالُ حتى انقلب على وجهه، وأخذ يشهد لمسيلمة أمام الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أشركه معه في النبوة، فكانت فتنته أشد على الناس من فتنة مسيلمة الكذاب نفسه(4)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل رسالة إلى مسيلمة الكذاب مع الصحابي الجليل: حبيب بن زيد الأنصاري رضي الله عنه، فما كان من مسيلمة الكذاب إلا أن قتل حبيبًا قِتلة شنيعةً؛ لرفضه التصديق بنبوته (5)، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقاتل مسيلمة الكذاب، حتى خلفه الصديق رضي الله عنه على المسلمين فقاتل مسيلمة، وقضى على فتنته.

وجه الصديق رضي الله عنه خالدَ بن الوليد بجيش لقتال مسيلمة وأتباعه، وكان للصحابي الجليل: ثمامة بن أثال موقف عظيم في تثبيت عدد كبير من قومه بني حنيفة على الإسلام، وثنيهم عن اتباع مسيلمة، وهذا يدل على أن كثيرًا من بني حنيفة قد ثبتوا على إسلامهم، ولم يتبعوا مسيلمة الكذاب، لا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بعد موته، ولما سمع مسيلمة بمقدم خالد؛ ندب الناس للقتال، وعزم على قتال خالد، وعسكر بمكان قرب اليمامة، يقال له: عقرباء، وفيه دارت بين المسلمين والمرتدين معركة عظيمة، لقي المسلمون فيها عنتًا وبسالةً من أتباع مسيلمة الكذاب، فقد قاتل بنو حنيفة قتالًا لم يعهد مثله، فقُتل من المسلمين عدد كبير، قُدر بخمسمائة أو أكثر، فيهم عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قتل من جيش مسيلمة عدد أكبر من ذلك بكثير، قُدر بنحو عشرين ألفًا، على رأسهم مسيلمة الكذاب نفسه، قتله وحشي بحربته، وقطع رأسَه أبو دجانة بالسيف، وكانت الغلبة للمسلمين، ووفد بعدها بنو حنيفة على الصديق رضي الله عنه (6).

الهوامش:

(1) البخاري، صحيح البخاري، مصدر سابق، ص: 4/203.

(2) البيهقي، أحمد بن الحسين، شعب الإيمان، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد (الرياض: مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، ط 1، 1423/2003) 3/40.

(3) أبو داود، سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود، تحقيق: شعَيب الأرنؤوط ومحَمَّد كامِل (بيروت: دار الرسالة العالمية، ط 1، 1430/2009) 4/389، شعيب الأرناؤوط: صحيح بطرقه وشواهده.

(4) الحميري، سليمان بن موسى، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1420) 2/113.

(5) ينظر: أبو نعيم، أحمد بن عبد الله، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (القاهرة: دار السعادة، د. ط، 1394/1974) 1/355.

(6) ينظر: ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق: 6/357-358.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين