الموجز في التاريخ: حروب الردة

جاءت بعض الوفود التي امتنعت عن دفع الزكاة؛ تحاول إقناع الصديق للتنازل عن أخذها؛ لكن الصديق أبى ذلك؛ فانصرفت الوفود بعدما رأت عزم الصديق على أخذها، وخرجت من عنده بأمرين:

الأول: أن أمر الإسلام في الزكاة واضح، لا يقبل المفاوضة، ولا أمل في تنازل الصديق عنها؛ لا سيما بعد تأييد المسلمين له، واقتناعهم بدليله على ذلك رضي الله عنهم.

الثاني: أنه لا بد من اغتنام فرصة ضعف المسلمين في المدينة، وقلة عددهم فيها؛ وشن هجوم كاسح عليهم، يقضي على الحكم الإسلامي في المدينة.

رأى الصديق رضي الله عنه بفراسته، وإلهام الله له ما في وجوه القوم من الخسة واللؤم والغدر، فقال لأصحابه: "إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلًا تُؤتون أم نهارًا؟ وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم عهدهم؛ فاستعدوا، وأعدوا" (1)، ووضع رضي الله عنه خطة لمواجهة غدرهم؛ فأمر أهل المدينة بالمبيت في المسجد؛ ليكونوا على أكمل استعداد؛ لمواجهة أي طارئ، ونظَّم الحرس على أطراف المدينة، وعين عليهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، ثم بعث إلى القبائل التي حوله ممن ثبت على الإسلام، يأمرهم بجهاد أهل الردة؛ فاستجابوا له، حتى امتلأت المدينة بهم، جاؤوا بخيلهم وجمالهم، ووضعوها كلها تحت تصرف الصديق رضي الله عنه.

بعد ثلاثة أيام طرقت تلك الوفود المدينة ليلًا؛ فانتبه لهم حرس الأنقاب، وأخبروا الصديق بذلك؛ فخرج إليهم بأهل المسجد إلى ذي حُسَي؛ فنفرت إبل المسلمين من القِرَبِ التي ألقوها أمامها، ولا تنفر الإبل من شيء نفرتها من ذلك، فعاجت بهم ما يملكونها، حتى دخلت بهم المدينة؛ فظن القوم بالمسلمين الوهن؛ فبعثوا إلى أهل ذي القصة(2) بالخبر، فقدموا عليهم، وهم لا يشعرون لأمر الله سبحانه، وبات أبو بكر ليلته يتهيأ، فعبأ الناس، ثم خرج إليهم، وأنزل فيهم السيف، وما ذرَّ قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار، وقتل حِبال -أخو طليحة الأسدي- وأتبعهم الصديق حتى نزل بذي القصة، ووضع بها النعمان بن مقرن، ثم رجع إلى المدينة، ووثب المسلمون من بني عبس وذبيان فقتلوا المرتدين من أقوامهم، وفعل غيرهم فعلهم، وعزَّ المسلمون بوقعة أبي بكر رضي الله عنه، وازداد المسلمون في بقية القبائل ثباتاً على دينهم، وازداد المرتدون ذلًا وضعفًا وهوانًا، وبدأت صدقات القبائل تفد المدينة تباعًا، وخلال هذه البشائر التي كانت تطل على المدينة؛ رجع أسامة بن زيد رضي الله عنه بجيشه ظافرًا، بعد أن صنع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمره به.

كان الثابتون على الإسلام في القبائل البعيدة عن المدينة المنورة يدعون أقوامهم المرتدين للعودة إلى حظيرة الإسلام، ولما لم يستجب لهم أقوامهم؛ أخذوا يجالدونهم، حتى استطاع أهل اليمن منهم قتل الأسود العنسي، وكان هؤلاء الرجال من أعظم الركائز التي اعتمد عليها الصديق رضي الله عنه -بعد الله تعالى- في قضائه على الردة من الداخل؛ فقد قاموا بأدوار مهمة في وأد هذه الفتنة.

أرسل الصديق إلى المرتدين في أطراف الجزيرة العربية الكتب والرسائل، يدعوهم فيها للعودة إلى حظيرة الإسلام، وكان يهدف زيادة على ذلك؛ أن يكسب الوقت حتى يعود جيش أسامة من الشام، وبعد أن عاد الجيش؛ عزم الصديق على الخروج إليهم بنفسه، وقتال من أصرَّ منهم على ردته؛ لكن المسلمين أبوا عليه الخروج بنفسه، وطلبوا منه البقاء في المدينة، وإرسال من ينوب عنه في ذلك؛ فعقد الصديق ألوية الجيش الإسلامي في ذي القصَّة، التي اتخذها مركزًا لانطلاق الجيوش، وقسم جيشه إلى اثني عشر لواءً، جعل على كل لواء أميرًا، ثم بثهم في الجزيرة كلها، وجعل خالد بن الوليد رضي الله عنه القائد العام لهذه الألوية كلها (3).

انطلقت الألوية التي عقدها الصديق، ترفرف عليها أعلام التوحيد، مصحوبة بدعوات خالصة، من قلوب تعظم المولى سبحانه، ومن حناجر لم تلهج إلا بذكره جل وعلا؛ فاستجاب الله هذه الدعوات النقية، فأنزل عليها نصره، وأعلى بهم كلمته، وحمى بهم دينه، حتى دانت جزيرة العرب للإسلام، في أشهر معدودة، بعد أن قضى أولئك الرجال على فتنة الأسود العنسي، وأتباعه من أهل اليمن، وعاد اليمن كله إلى حظيرة الإسلام، وأعلن الطاعة لخليفة المسلمين، كما قضى أولئك الأبطال على فتنة طليحة الأسدي وأتباعه، فتشتت أمره، وهزم أنصاره أمام ضربات خالد، وتخذيل عدي بن حاتم رضي الله عنه لأتباعه، وإرجاع كثير منهم إلى الإسلام؛(1) حتى فرَّ طليحة بزوجته إلى الشام.

وقضى المسلمون على فتنة سجاح التغلبية، كما قضوا أيضًا على فتنة أهل عُمان، الذين ارتدوا عن الإسلام، واتبعوا لقيط بن مالك الأزدي، الذي ادعى النبوة، وقضوا بقيادة العلاء بن الحضرمي، والمثنى بن حارثة على ردة أهل البحرين، وقد كان للصحابي الجليل: الجارود بن المعلَّى رضي الله عنه موقفٌ عظيم في وأد هذه الفتنة في البحرين، وتثبيت أهله على الإسلام، فرضي الله عنه وأرضاه (4).

الهوامش:

(1) الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري (بيروت: دار التراث، ط 2، 1387) 3/245.

(2) موضع قريب من المدينة، ينظر: الزَّبيدي، محمد بن محمد، تاج العروس، تحقيق: مجموعة من المحققين (دار الهداية، د. ت، د. ط)

(3) ابن كثير، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية (دمشق: دار الفكر، د. ط، 1407/1986) 6/313-314.

(4) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، مصدر سابق، 2/222.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين