نبي الرحمة (38)

سرية ذات السلاسل:

علم صلى الله عليه وآله وسلم باجتماع قبائل العرب التي تقطن مشارف الشام مع الرومان ضد المسلمين في مؤتة، فوضع خطة ليوقع الفرقة بينها وبين الرومان، وتكون سبباً للإئتلاف بينها وبين المسلمين، ولا تتحشد هذه الجموع الكبيرة مرة أخرى. واختار لتنفيذها عمرو بن العاص، لأن أم أبيه كانت امرأة من بَلِي، فبعثه إليهم في جمادى الآخرة ٨هـ. على إثر معركة مؤتة ليستألفهم. وعقد له لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعث معه ثلاثمائة مقاتل، وثلاثون فرساً، وأمره أن يستعين بمن مر به من بَلِي وعُذْرَةَ وبَلْقَيْنِ، فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب من القوم بلغه أن لهم جمعاً كثيراً، فبعث رافع بن مَكيث الجُهَنيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين- فيهم أبو بكر وعمر- وعقد له لواء وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعاً ولا يختلفا، فلما لحق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقال عمرو: إنما قدمت عليّ مدداً وأنا الأمير، فأطاعه أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس. وسار حتى وطىء بلاد قضاعة، فدوخها حتى أتى أقصى بلادهم، ولقي في آخر ذلك جمعاً، فحمل المسلمون عليهم فهربوا في البلاد وتفرقوا. وبعث عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره بقفولهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم. وذات السلاسل بقعة وراء وادي القرى، بينها وبين المدينة عشرة أيام.

سرية أبي قتادة إلى خضرة:

شعبان ٨ هـ. كان بني غطفان يتحشدون في خضرة- وهي أرض محارب بنجد- فبعث إليهم صلى الله عليه وآله وسلم أبا قتادة في خمسة عشر رجلاً فقتل منهم، وسبا وغنم. وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.

غزوة فتح مكة:

سبب الغزوة:

في معاهدة الحديبية دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الآخرى، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وثارات في الجاهلية، وحسب المعاهدة فإن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له يعتبر عدوانا على ذلك الفريق. فلما أمنت خزاعة اغتنمها بنو بكر، فخرج نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيُّ في جماعة من بني بكر في شعبان ٨ هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له: (الوتير) فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلَهَكَ إلَهَكَ. فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الخزاعي، وإلى دار مولى لهم يقال له رافع. وأسرع عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ، فخرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فناشده النصرة وأبلغه نقض قريش للعقد. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم، ثم عرضت له سحابة من السماء فقال:(إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب). ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة.

أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح:

لم يكن لغدر قريش وحلفائها أي مبرر، فسرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها ليقوم بتجديد الصلح. وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم. قال:(كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة). وخرج أبو سفيان- حسب ما قررته قريش- فلقي بديل بن ورقاء بعسفان- وهو راجع من المدينة إلى مكة- فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ - وظن أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيها النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً. وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة وحسن غلام يدب بين يديهما فقال: يا علي إنك أَمَسُّ القوم بي رَحِماً، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعنّ كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فأظلمت الدنيا أمام أبي سفيان، فقال لعلي بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني. قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة، فقم فَأَجِرْ بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق. ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فو الله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدنى العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار علي بشيء صنعته، فو الله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.

التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء:

أمر صلى الله عليه وآله وسلم عائشة- قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام- أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال: يا بنية ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري. فقال: والله ماهذا زمان غزو بني الأصفر فأين يريد رسول الله؟ قالت: والله لا علم لي. وفي صباح الثالثة تأكد خبر نقض الميثاق، فأمرهم صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة. وقال:(اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها) وبعث صلى الله عليه وآله وسلم سرية قوامها ثمانية رجال تحت قيادة أبي قَتَادَة بن رِبْعِي إلى بطن إضَم في رمضان ٨هـ، ليظنّ الظانّ أنه صلى الله عليه وآله وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار. وكتب حَاطِب بن أبِي بَلْتَعَةَ إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتاه الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد، فقال:(انطلقا حتى تأتيا رَوْضَةَ خَاخٍ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش)، فانطلقا تعادي بهما خيلهما حتى وجدا المرأة بذلك المكان، فاستنزلاها، وقالا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشا رحلها فلم يجدا شيئاً، فقال لها علي: أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا كذبنا، والله لَتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لنُجَرِدَنّك. فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض. فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا صلى الله عليه وآله وسلم حاطباً، فقال: ما هذا يا حاطب؟ فقال: لا تعجل عليّ يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ملصقاً في قريش، لست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك لهم قرابات يحمونهم فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله وقد نافق، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فذرفت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم. وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيؤهم للزحف والقتال.

الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة:

في١٠ رمضان ٨هـ غادر صلى الله عليه وآله وسلم المدينة متجها إلى مكة، في عشرة آلاف من الصحابة واستخلف على المدينة أبا رُهم الغفاري. ولما كان بالجحفة لقيه عمه العباس وكان قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، ثم لما كان صلى الله عليه وآله وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك. وقال علي لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف:{قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا، وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ}[يوسف:٩١] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولاً. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:{لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:٩٢] فأنشده أبو سفيان أبياتاً، فضرب صلى الله عليه وآله وسلم صدره وقال:(أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مُطَرَّدٍ).

الجيش الإسلامي ينزل بمر الظهران:

واصل صلى الله عليه وآله وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر وأفطر الناس معه، ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران- وادي فاطمة- نزله عشاء، فأمر الجيش، فأوقدوا النيران، فأُوقِدَت عشرة آلاف نار، وجعل صلى الله عليه وآله وسلم على الحرس عمر بن الخطاب.

يتبع.......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين