الموجز في التاريخ: عهد أبي بكر الصديق

إسلام الصديق وصحبته رسول الله

هو عبد الله بن عثمان بن عامر، من بني تيم، يلتقي نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، ولد بعد عام الفيل بنحو ثلاث سنين، يكنى أبا بكر (1)، كان رضي الله عنه أول من أسلم من الرجال، لم يتردد لحظة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتلكأ، فما إن دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام؛ إلا واستجاب له، بل لقد عاهد الصديقُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على نصرته في دعوته؛ فمنذ بداية إسلامه رضي الله عنه حمل همَّ هذه الدعوة على عاتقه؛ وخرج يدعو إليها، وكانت باكورة ثمار دعوته؛ دخول صفوة الخلق في الإسلام: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسود، والأرقم بن أبي الأرقم، رضي الله عنهم، وكان هؤلاء الرجال دعامة الإسلام الأولى، التي قام عليها صرحه، بهم أعز الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وبهم أيَّده، فهم كتيبة الإسلام الأولى وحصنه، لم يسبقهم سابق، ولم يلحقهم لاحق، في تاريخ الإسلام.

صحب الصديقُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في كل مراحل دعوته في مكة، وناله في سبيل ذلك الأذى والضرُّ من قريش، فضُرب وعُذب رضي الله عنه، وحثي التراب على وجهه؛ بل لقد كاد يفقد حياته رضي الله عنه في سبيل إعلان هذه الدعوة في مكة، والصدع بها أمام قريش، ولم يزده الضرُّ إلا رسوخًا في الإيمان، وثباتًا على العقيدة، ولم يكتفِ بمناصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذود عنه، بل لقد واسى بماله المسلمين المستضعفين في مكة، كبلال الحبشي، الذي اشتراه وأعتقه لله، وغيره أيضًا.

ولما اشتد أذى قريش على المسلمين؛ خرج الصديق مهاجرًا إلى الحبشة، فلقيه ابن الدغنة، وقال له: مثلك يا أبا بكر لا يَخرج، ولا يُخرج، إنك لتكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق؛ فأعاده إلى مكة، وأدخله في جواره، ثم ردَّ عليه الصديق جواره؛ لما أخذ ابن الدغنة يستمع لقريش، ثم لـمَّا أنكر الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم حادثة الإسراء؛ كان الصديق من أول من صدقه؛ فسمي الصديق لذلك (2).

ثم صاحب أبو بكر رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة المنورة، وبات معه في الغار ثلاث ليال، إلى أن هدأ الطلب، ويئس المشركون من العثور عليهما، ولقد سجل الحق سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

وفي المدينة كانت حياة الصديق رضي الله عنه مليئةً بالدروس والعبر، تركت لنا نموذجًا حيَّاً لفهم الإسلام، وتطبيقه في دنيا الناس، وقد تميزت شخصيته بصفات عظيمة، ومدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، بينت فضله ومكانته، وتقدمه على الصحابة رضي الله عنهم، ومن أعظم ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ من أمنِّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقينَ في المسجد بابٌ إلا سُدَّ، إلا بابَ أبي بكر» (3).

وقد ذكر أهل السير، أن الصديق رضي الله عنه شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، ولم يفته منها مشهد، وثبت معه يوم أحد، وكان له موقف عظيم في اتباع رسول الله رضي الله عنه يوم الحديبية، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم رايته العظمى يوم تبوك، وكانت سوداء، وأمَّره على الحج سنة (9) للهجرة، وكانت له رضي الله عنه مواقف مع اليهود، المكذبين لله ورسوله، وأنزل الله تصديقًا له قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة، وقدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ليصلي بالناس.

ظهرت عظمة الصديق رضي الله عنه، وقوة إيمانه ويقينه؛ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تلك المصيبة التي ما شهدت الدنيا أعظم مصيبة منها ولا أشد، اضطرب فيها أمر الناس، ولم يصدقوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، بما فيهم الفاروق عمر رضي الله عنه! حتى جاء الصديق، فأجلى للناس الأمر، فخطبهم، وتلا عليهم قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}آل عمران: 144{؛ فأدرك الجميع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات حقاً.

الهوامش:

(1) ابن حجر، أحمد بن علي، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: عادل أحمد (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1415 هـ) 4/144.

(2) ينظر: الصلابي، علي الصلابي، أبو بكر الصديق (بيروت: 1430 ه/2009 م) ص: 17/32/40.

(3) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، تحقيق: محمد زهير الناصر (دار طوق النجاة، مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1، ت: 1422هـ) 5/4.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين