صورة مبتورة

قلما يوجد إنسان على ظهر الأرض لم يشاهد صورة الأفغان وهم يتعلقون بأجنحة الطائرات، مصحوبة بمعلومة عن هروبهم من الجحيم المنتظر من حكم طالبان.

وبلغت الصورة قمة تأثيرها الدرامي بتناقل طفل رضيع سلمته أمه لتتناقله الأيدي وصولا ليد الجندي الأمريكي الذي يقوم بدور المنقذ المخلِص لهؤلاء البؤساء.

هذه الصورة الناطقة بذاتها لا تترك فرصة للمشاهد لها للخروج عن إصدار حكم قطعي يريده صانع مروج وموجه الصورة.

فهل هذه الصورة مزيفة ومركبة وغير حقيقية؟

إطلاقا.. هذه الصورة صحيحة وواقعية، وتعبر تمام التعبير عن خوف طائفة من الأفغان من حكم جماعة طالبان، استنادا لخبرة الأفغان السابقة مع حكم طالبان المتشدد، الذي يُلَبِّسُ آراءه القبَلية المحلية المتشددة ثوب الأحكام الإسلامية.

ولكنها مع حقيقتها لا تعبر عن الحقيقة؛ بل تخفي من الحقيقة أكثر مما تظهر، وتضلل المشاهد لها أكثر من تنويره، وتوجهه لتبني جزءًا من الحقيقة يخدم هدف صانع ومروج الصورة.

هذه الصورة التي تحيط بالمشاهد تجعله أسيرا لتأثيرها الوجداني، ومنساقا وراء تكوين صورة ذهنية وتصورا للحقيقة، وفق رغبات وتوجيه صانع الصورة ومروجها، ومتخليا عن أبسط قواعد خبراته الحياتية؛ فكل منا قد يأتيه أحد أبنائه صارخا باكيا تتلطخ يده بالدماء ويشكو أخاه متهما إياه بالاعتداء، ومع اكتمال الصورة نكتشف أن هذه الدماء من أثر جرح في رأس المشكو منه نتج عن ضرب الشاكي.

فالإنسان الواعي الذي يريد الوصول للحقيقة، يضع أجزاء الصورة للموضوع الواحد بجوار بعضها لتكتمل أمامه الصورة الكلية التي تعينه على الحكم الصحيح.

إذا أردنا الوصول لصورة أشمل لحقيقة المشهد الأفغاني؛ فينبغي وضع صورة الجندي الأمريكي الذي يتلقف الرضيع الأفغاني في لوحة واحدة مع صور الجثث المتفحمة من القصف الأمريكي والغربي لمدة عشرين عاما، والأطفال والنساء القتلى والمعاقين والمشردين، والأشلاء المتناثرة والدور المهدمة، وحفلات الأعراس التي حولها القصف الأمريكي الغربي إلى مآتم، وآلاف المليارات التي أنفقها الأمريكان لاستمرار الاقتتال بين الأفغان.

وكتابة عنوان في أعلى اللوحة بإمضاء الرئيس الأمريكي "جو بايدن": "لم نكن نسعى لبناء دولة وخلق ديموقراطية مركزية في أفغانستان، بل جئنا لمكافحة الإرهاب الذي يأتي من هذه البلاد"!

وأمام هذه اللوحة التي تجمع أجزاء الصورة، سيكتشف المشاهد من هو المجرم والجاني الحقيقي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين