لا جبال كجبال الحجاز

زرت في الثالث من محرم الحرام سنة 1443هـ ليك دستركت (منطقة البحيرات) في شمال إنكلترا، ومعي أهلي وبناتي وأولادهن، وهذه المنطقة معروفة بجبالها، وبحيراتها، وشلالاتها، ومعادنها، ومناظرها الطبيعية الخلابة، ومكثنا بها أربعة أيام نزور المنتزهات والحدائق والبحيرات نروح قلوبنا، ونرفه عن نفوسنا، ونُكسبها خفة ونشاطا.

وقد كتبت عدة مقالات باللغة الأردية عن استيحاءاتي من هذه الرحلة تلقاها الطلاب وسائر الناس بالقبول والرضى، إلا أن شعورا غريبا ساورني خلال أيام التسلية، فغلبني غلبة لا أكاد أدفعه، قسرت نفسي على إخفائه، وامتنعت من أبثه إلى قراء الأردية، والآن إذ عدت من الإجازة أراني يعاودني ذلك الشعور الغريب، يعاودني بلطافة تارة فيغمرني بلذة عجيبة، وبشدة أخرى فيهزني هزا، فقضيت أن أفصح عنه بالعربية، فهو بقراء العربية أليق، ولعل إفصاحه يخفف عني بعض شجوني.

وذاك أني كلما مررت - منذ أن نزلت بهذا الوادي الجميل - بسلسلة من الجبال استهوت قلبي واستأسرت عيني، وصرت غريبا عما حولي، وكأن أهلي لا يشاركوني في النشاطات الترفيهية وأنا لا أشاركهم فيها، وصادفتُ هذه الجبال تعمل في داخي ما تعمله رؤية الأحبة الأعزاء والمقربين الأخلاء، وهي جبال لا عهد لي بها، ولا عهد لها بي، ولا صلة لها بلكنؤ ولا جونفور، فما لي أشم منها رائحة الألفة؟ وما لي أتمتع بالنظر إليها وكأني أتمتع بمشهد بديع أخاذ؟

بدأت أقلب ذكرياتي وأردد حوادث حياة واحدة تلو الأخرى حتى عرفت السر: إنها سلسة جبال تشبه سلسلة الجبال الواقعة بين مكة والمدينة، إنها تستثير في نفسي كوامن صبابتي لجبال الحجاز وهضباته، وتهيج سواكن نزعات تبوح بهوى، وتكشف عن جوى.

فلما عرفت السر خيل إلي أن نفسي ستشبع برؤيتها، وأن قلقي سيزول، وأن اضطرابي سينتهي، ولكن لم يحصل شيء من ذلك، بل ما زال ألم الحب يبعث في قلقا واضطرابا.

عجبت من شأني واستغربته استغرابا، إن جبال الحجاز جرداء قاحلة، وهذه جبال خضراء مكتظة بالأشجار والدوحات، ووافرة المياه والشلالات، تتقاطعها البحيرات والغدران، فما لعيني لا يسرها جمالها وحسنها؟ وما لقلبي لا يسعده رواؤها وبهاؤها؟ وما لنفسي تأبى هذا الجمال أشد الإباء نافرة منه مشمئزة؟ يا لغرابة أمري، ويا للمرض الذي يستعصي على العلاج.

يا نفسي! أليست هذه الجبال مثل جبال الحجاز بل أشد منها بهجة ونضارة، وأبلغ منها رونقا وسحرا؟ فما لك مفتونة بجبال الحجاز وجدا وهياما؟ وألححت على نفسى أن تجيب، فقالت:

صدقت أن الجبال الشاهقة في مكة والمدينة والجبال الممتدة بينهما جرداء قاحلة، لا زروع فيها ولا أشجار، لا مياه فيها ولا شلالات، فاعلمن أن ما ذكرت من تجردها وتعريها، وما كرهت من شدة الشمس فيها ولفحاتها، هو الذي حببها إلي، وزادني بها كلفا وغراما.

فقلت: يا نفسي! ما لك تزيدينني التباسا من أمري وارتباكا؟ ما هذا الإغراق في التعقيد والإفراط في التعمية؟ أبيني عنك فقد نفد صبري، فقالت: إن جبال الحجاز تذكرني بصبر قاطنيها وتجلدهم وشكيمتهم، إنها أمينة لتضحيات إبراهيم وإسماعيل وهاجر عليهم السلام، وحاضنة لأخبار خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في احتمال الإرهاق والعناء، والعسر والبأساء، وهل تعادلها جبال العالم معنى وكرامة.

إن جبال الحجاز أورثت في أهلها فضائل إنسانية وأخلاقا نبيلة وخصالا عزيزة لا يتنافس فيها إلا أولو الهمم العالية والعزائم الصارمة، إنها جبال تربى فيها الأئمة الأبرار والمصطفون الأخيار، فلا تلومنَّني في حبها، وهي التي تهيجني هيجانا، ما أرى جبالا إلا ذكرتها، فلو كشفت أحشائي صودف تحتها لتلك الجبال موجدة عجيبة وهوى غريب.

فقلت: الآن جئت بالحق، والحق أحق أن يقال، فلا جبال كجبال الحجاز، ولا أرى لنفسي بغية إلا أن تمر بتلك الجبال فتشم رائحتها، ولا أرى عطشي تذهبه إلا تلك الأرض الظمئة، ولا أرى جزعي يرحل إلا إذا حططت بتلك الدار النائية، فقرب الحبيب ينسي لوعات الفراق، وبيض فعال تلك البقاع تمحو شدائدها وسوادها، أبى قلبي إلا حبها، ولم يرد سواها، وتعلقتها روحي زاهدة في غيرها.

ألا يا تهامة! قد نما التصابي، وما أنا بالذي أنساك، فتولّي من تولاك وحيي من حياك، ألا يا جبال أبي قبيس والصفا والمروة المطلة على الطوافين بالبيت، ويا جبال عرفات، ومزدلفة، ومنى المقرة عيونها بضيوف الرحمن! أصفيت طريف محبتي، ودام على العهد الكريم تليدها، ألا يا جبال أحد وسلع وعير الحاملة شذى أبي القاسم صلى الله عليه وسلم وبقايا طيب أصحابه الأبرار، إني لمودتك حافظ، وإني غير كنود لأياديك الحسناء، إن يكن جثماني بأرض سواك، فإن فؤادي عندك الدهر أجمع.

يا رب حببني إليها، وأعطني المودة منها، فأنت الذي تعطي وتمنع، وثبتني على الفضائل التي فتنت بها من أجلها، وإن كنت كارها، واجعلني يا ذا المعارج أموت عليها وأحيا، آمين يا رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين