نبي الرحمة (37)

معركة مُؤْتَةَ:

جمادى الأولى ٨هـ. كانت أكبر لقاء مُثْخِن، وأعظم حرب خاضها المسلمون في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي تمهيد لفتوح بلدان النصارى. و مُؤْتَة قرية بأدنى بلقاء الشام بينها وبين بيت المقدس مرحلتان.

سبب المعركة:

بعث صلى الله عليه وآله وسلم الحارِثَ بنَ عُمَيْرٍ الأَزدِيَّ بكتابه إلى عظيم بصرى، فعرض له شُرَحبيل بنُ عمرٍو الغسّانيُ- وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر- فأَوثَقه وضرب عنقه. وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد هذا الخبر على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فجهز جيشاً قوامه ثلاثة ألف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي، لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب.

أمراء الجيش ووصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم:

أمّر صلى الله عليه وآله وسلم عليهم زيد بن حارثة، وقال:(إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة). وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة. وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، ويدعوا مَنْ هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم وقاتلوهم، وقال لهم:(اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغيروا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء).

توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة:

لما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس، ودّعوا أمراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسلموا عليهم، وحينئذ بكى أحد أمراء الجيش عبد الله بن رواحة، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا}[مريم:٧١] فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله بالسلامة ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين، ثم خرج القوم وخرج صلى الله عليه وآله و سلم مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودَّعهم.

تحرك الجيش الإسلامي ومباغتته حالة رهيبة:

تحرك الجيش في اتجاه الشمال حتى نزل معان من أرض الشام، وحينئذ نقلت إليهم الإستخبارات بأن هرقل نازل بماب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لَخْم وجُذَام وبَلْقَيْن وبَهْرَاء وبَلِي مائة ألف.

المجلس الإستشاري بمعان:

لم يتوقع المسلمون لقاء هذ الجيش العرمرم، الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة. وهل يهجم جيش صغير قوامه ثلاثة آلاف مقاتل على جيش كبير عرمرم مثل البحر الخضم قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار المسلمون وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي وشجع الناس قائلاً: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد، ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. وأخيراً استقر الرأي على ما دعا إليه عبد الله بن رواحة.

الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو:

تحرك المسلمون إلى أرض العدو وعسكروا بمؤتة، وتعبأوا للقتال، على الميمنة قُطْبَة بن قتادة العُذْرِي، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري.

بداية القتال وتناوب القواد:

في مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون مائتي ألف مقاتل. أخذ الراية زيد بن حارث- حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- وجعل يقاتل بضراوة، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم وخر صريعاً. فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعاً إياها حتى قتل. يقال: إن رومياً ضربه ضربة قطعته نصفين، وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء، ولذلك سمي: بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين.

عن نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل فعَدَدْت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره. يعني ظهره. ولما قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد حتى حاد حيدة، ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل.

الراية إلى سيف من سيوف الله:

أخذ الراية ثابت بن أرقم وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل، فاصطلحوا على خالد بن الوليد، فأخذ الراية. وعن خالد بن الوليد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية.وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يوم مؤتة- مخبراً بالوحي، قبل أن يأتي الخبر من ساحة القتال-:(أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب- وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم).

نهاية المعركة:

إن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار، في أول يوم من القتال، وكان بحاجة إلى مكيدة حربية، تلقي الرعب في قلوب الرومان، حتى ينجح في الإنحياز بالمسلمين دون مطاردة الروم لهم، فقد كان يعرف جيداً أن الإفلات من براثنهم صعب جداً. فلما أصبح اليوم الثاني عبأ خالد الجيش من جديد، فجعل مقدمته ساقة، وميمنته ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا: جاءهم مدد فرعبوا، وصار خالد- بعد أن تقابل الجيشان وتناوشا ساعة- يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظنا منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء.

وهكذا انحاز العدو إلى بلاده، ولم يفكر بمطاردة المسلمين، ونجح المسلمون في الإنحياز سالمين، حتى عادوا إلى المدينة.

قتلى الفريقين:

استشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلاً، أما الرومان، فلم يعرف عدد قتلاهم غير أن تفصيل المعركة يدل على كثرتهم.

أثر المعركة:

ألقت هذه المعركة العرب كلها في دهشة وحيرة، فالرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، فكان لقاء جيش صغير- ثلاثة آلاف مقاتل- مع جيش ضخم عرمرم- مائتا ألف مقاتل- ثم الرجوع دون خسارة تذكر من عجائب الدهر، ويؤكد أن المسلمين مؤيدون ومنصورون من عند الله، وأن صاحبهم رسول الله حقاً، والقبائل اللدودة التي كانت تثور على المسلمين جنحت بعد المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سُلَيْم وأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها.

يتبع...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين