غرام الجارية

إنه شاب في رَيْعان الشباب، حباه الله تعالى وسامة في الخَلق وسَعة في الرزق، فأغراه ذلك بأن يعيش حياته في طولها وعرضها، مُتوسعًا في متاعها ومُتعِها، دارٌ واسعة فاخرة، وثياب نفيسة عاطرة، ومراكب ثمينة فارهة، وما لذّ وطاب من طعام وشراب.

عُرِضتْ عليه جارية أَمَة شابة ليشتريها، فلما رآها في ميعة صِباها وإشراق حُسنها، ملأت عينه جمالا ونفسه أنْسًا، فاشتراها غير آبه بغلاء ثمنها، ولسانُ حاله يقول: [ومن يطلب الحسناء لم يُغْلِه المهرُ].

فلما آواها إلى منزله، وجد من لباقتها ورشاقتها وجمال منطقها وحِدّة ذكائها وحسن طاعتها وحكمتها في تصرفاتها، ما زاده بها غرامًا وشغفاً، فقد جمعت جمال المنظر والمخبر، وملكت عليه عينه وقلبه، وزاده سرورًا بها ما تبديه من سرورها به.

ولا ينغص عليه من شأنها إلا ما يرى من حرصها على فرائض صلاتها وصيامها، فإن استغراقه في الغفلة ولّد في قلبه وحشة من طاعة الله ومن القرب منه.

ولكن ذلك التنغيص لا يضيره كثيرًا، لأنها ما تلبث أن تفرُغ من عبادتها لتكون رهن إشارته وطوع رغبته.

مضت الليالي والأيام تطوي الشهور والأعوام، والشاب المذكور غارق في ترفِهِ وسَرَفِه وتفريطه في جنب ربه، مغتبط بما هو فيه، لا يصغي لناصح ولا واعظ، ولا يعرف السعادة إلا في إشباع الغرائز باللذائذ، أما سعادة الروح بمعرفة خالقها، وسعادة القلب بالتذلل للرب سبحانه، فليس هو منها في وِرْدٍ ولا صَدَر.

وفجأة تحول بالرجل الحال، وتبدلت المشاعر والأفعال، تمامًا كما يصحو المخمور من سكره فور استيقاظه من نومه.

وفقَدَه أصحابُه في مجالس لهوهم، فتقصَّوا خبره، فإذا هو قد خلع حياة الترف والغفلة، وأقبل باجتهاد على العبادة والالتزام، والمواظبة على الجماعة والقرآن، كأنه مسافر ضل طريقَه، ثم اهتدى إليه بعد حين، فهو يَجِدُّ في السير لعله يدرك الرَّكْب.

فأقبلَ أخِلاءُ الأمس يلومونه في إشفاق واستغراب: ما ذا دهاك يا فلان؟ أتعتزل الخلان والأقران بعد طول صحبة؟ وتدعُ بهجة النفس في مجالس الأنس التي لا تحلو إلا بك، وأنت أقدرنا على السعادة بها والاستكثار منها؟! ما الذي حوَّل حالك، واغتال آمالك، وأزعج استقرارك وغيَّر مسارك؟!

وكان الجواب: لو عرفتم ما عرفتُ، وذقتم من لذة الصلح مع الله ولذة رضاه ما ذقتُ، لعلمتم أنّ ما كنتُ فيه هو عين الحرمان، لأنه حجاب بين الروح وبين سعادتها بحب باريها وقربه وطاعته.

ولما استقصَوا وفتشوا عما وراء هذا التحول المفاجئ من الهوى إلى الهدى، ومن حياة الترف إلى التزهد والشَّظَف، وجدوا أنها الجارية المذكورة.

ونُحيل الكلامَ إلى ذلك الشاب نفسه، يحكي القصة بنفسه على نحو ما روتها عنه بعض كتب السلف.

قال: كانت لي أَمَة لا يزيدني طولُ الاستمتاع منها إلا غرامًا بها، وبينما كنت ألهو بشَعرها يومًا وأقلبه، فإذا فيه شعرتان بيضاوان، فأخبرتها مُداعِبا بأن الشيب قد تسلل إلى شعرها..! فارتاعت لذلك واهتمّت وقالت: أحقاً ما تقول؟! أرني ذلك.

فأريتها الشعرتين الشائبتين في رأسها، فنهضتْ من فورها وقالت: {جاء الحق وزهق الباطل}.

ثم نظرتْ إليّ وقالت: اعلم أنه لو لم يَفرض اللهُ عليّ طاعتك لما أَويتُ إليك، ولا كنت طوع أمرك، فدع لي ليلي أو نهاري لأتزود فيه لآخرتي، فقد جاء النذير بقرب الرحيل.

فقلت: لا، ولا كرامة، فإن أمر آخرتِك لا يعنيني، وستبقين طوع رغبتي وملك يميني، ولا يسعك إلا ذلك.

فغضبَتْ وقالت: أتَحُولُ بيني وبين ربي وقد أنذرني بقرب لقائه؟!

ثم رفعتْ يديها إلى السماء وقالت: اللهم بدّلْ حُبه لي بغضاً.

قال: فبتُّ وما شيءٌ أحبَّ إليّ من بُعدها عني.

وعرضتُها للبيع، فأتاني مَن أعطاني فيها ما أريد، فلما عزمتُ على البيع بكتْ؛ فقلت لها: لماذا تبكين؟ أنتِ أردتِ هذا، وأنتِ التي دعوتِ بوقوع البغضاء، وقد استُجيبَ لك!.

فقالت: والله ما اخترتُ عليك شيئاً من الدنيا، فهل لك إلى ما هو خير لك من ثمني؟

قلتُ: وما هو؟

قالت: تعتقني لله عز وجل، فإنه سبحانه أقدر عليك منك علي، وحاجتك إليه أعظم من حاجتي إليك.

قال: فلما رأيتُ صدق لهجتها وقوة عزيمتها، قلتُ لها: قد أعتقتك لوجه الله.

فقالت: تقبل الله منك قربتك، وأربح صفقتك، وبلَّغك أضعاف أَمَلِك.

وجلس الشاب إلى نفسه، مبهورًا بصدق عزيمة تلك الحبيبة المفارقة، التي أخلصت النصيحة لنفسها، فوجدت أن سعادة الدار الفانية إنما هي بالعمل لسعادة الدار الباقية، وأن ما سوى ذلك ما هو إلا وهْمٌ ليس وراءه إلا الحسرات يوم لا تنفع الحسرات.

ووجد نفسه يقول: لئن كانت قد شابت منها شعرتان فقد شاب من شعري ما لا أحصيه، فما لي لا أفزع فزعها وأجِدُّ في نجاة نفسي جِدَّها.؟!

ثم شرح الله صدره للحقيقة الكبرى، وهي أنّ مِن نصيحته لنفسه أن يَطلب لنفسه سعادة الأبد، ولو كان ذلك على حساب حظوظ النفس العاجلة.

فلما جدّ في طلب تلك السعادة، وجد في مكابدة ذلك الطلب من سعادة الروح وبهجتها ما تهُوْن عنده كل لذائذ الجسد، وعرف عندئذٍ حجم الحرمان الذي كان فيه يوم كان يظن أنه يعيش السعادة طولاً وعرضاً وأفقاً وعمقاً، فقد عرف اليوم نوعًا من السعادة لا يشبهها ولا يَفضلها إلا سعادة الخلود في الآخرة.

إنه يعيش سعادة أهل الجنة قبل أن يدخل الجنة..

أليس من عظيم سعادة أهل الجنة رضا الله سبحانه، الذي يُحله عليهم حين يقول لهم: (أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا)؟

إنه الآن يستشعر هذا الرضا، ويلتذ ويسعد به كلما قرأ قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.

وكلما مر بالوعد الحق: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}

ولولا أن الله سبحانه راضٍ عنه لما هداه إلى طريق رضاه سبحانه.

هذه الحقيقة تقفنا على سؤال كبير، كثيرًا ما يُثار بشأن الالتزام الديني، وهو:

هل الالتزام الديني تضييق على النفس وحرمان؟؟

وهذا سؤال يكتنفه وهْمٌ خطير عند قِطاع عريض من الشباب.

وهو وهْمٌ ولبسٌ يحتاج ضرورة إلى الكشف والتوضيح، لتوضع الأمور في سياقها الصحيح.

إن الشاب الذي يكسر قيد الالتزام الديني حرصًا منه على استقصاء المتعة وإشباع الهوى، يرى خطأً، أن الالتزام الديني كبت وحرمان، وربما نظر إلى الملتزمين نظرة رحمة وإشفاق لأنهم في نظره، بؤساء مساكين، كبتوا أنفسهم حين تورعوا عن تمتيع أنظارهم بالجمال الفتان، وتشنيف أسماعهم بالمعازف والألحان، وقبضوا زمام شهواتهم فلم يطلقوها، وانتهوا عن أهوائهم فلم يشبعوها.

فهو يعلم أن هؤلاء لهم غرائز متعطشة، وشهوات متوثبة، ولكنهم قمعوها وأخمدوها، فيا لهم من مساكين، لم يعرفوا طريق السعادة الذي عرفه، فهو لا يزال متقلبًا بين لذائذ وشهوات السمع والبصر، والبطن والفرج، والمال والمتاع، لا يُضيّق على نفسه في شهوة، ولا يكبت لها رغبة.

فنقول لهذا المسكين: إنك لو وقفت على حقائق الأمور، ونظرت إلى القضية بعين الإيمان، لعلمت أن الشاب الملتزم أحرص على متعة نفسه من كل حريص، بل إنه ليجِدُّ ويجتهد في استقصاء لذائذه، وينافس على ذلك في أنانية مفرطة، ولكنها أنانية حميدة، أنانية أغرانا الله تعالى بها حين قال عنها: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}.

وقال عنها: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.

ونقول لهذا المسكين: إنك لو جربت لذة الصلح مع الله ومراجعة حِماه، وأذقت القلب لذة حبه وقربه سبحانه، لوجدت أن لذتك الموهومة بالبعد عنه هي الحرمان.

وشتان شتان بين متعةٍ حسية عابرة ما تلبث أن تنقضي وتبقى تبعاتها، ليجد الشاب نفسه نهبًا لقلق نفسي، أو خَواء روحي، أو أزمات عاطفية، قد لا يرى فَكاكًا منها إلا بالانتحار، والعياذُ بالله، وبين لذة حلاوة الإيمان، والشعور بالقرب من الله عند أداء الطاعات، لذة مناجاة العبد ربه في الخلوات، وعبرات الندم في الأسحار، لذة الشوق إلى لقائه سبحانه، لذة استشعار نصرته ومعيته عند الضوائق والأزمات، واستشعار حكمته وعلمه عند الابتلاء والتمحيص، بحيث لا يبغي عن هذه اللذة حِولاً ولو نُشِر بالمناشير أو قرض بالمقاريض، حتى لقد قال بعضهم: [إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه، فإنهم في عيش طيب.]

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله - وهو زاهد مشهور، توفي سنة 215هـ ـ: [أهْلُ الليل في ليلهم - يعني أهل قيام الليل - ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.]

وقال أيضاً: [ما أحب البقاء في الدنيا لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار، وإنما أحبها لصيام الهواجر وقيام الليل.]

وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله - وهو زاهد مشهور، توفي سنة 161هـ -: [لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف.]

وكان بعض العلماء العاملين يقول: [مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا طيب نعيمها. فيقولون له: وما نعيمها؟ فيقول: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه.]

وفي سنن النسائي من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: (وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ).

فمن أراد الحياة الطيبة في الدنيا قبل الآخرة، فليطلبها بعمل الآخرة، وعندئذ يجد القلب لذة وسعادة لا يُطيق فقْدها، لأن القلب إذا فقدها كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها.

فأين ذلك من اللذة القاطعة عن الله؟ التي تنقلب آلامًا وعذابًا، ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك، التي يليها ما هو أشد ضنكا وفتكا، والتي قال الله تعالى عنها:

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127). (سورة طه)

والله أعلم.

(قصة وعبرة مستوحاة من واقعة ذكرها أبو عبد الله القرطبي في كتابه "التذكرة")

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين