رجال ومواقف: حذيفة بن اليمان ووالده يوم أحد

هو حذيفة بن اليمان الصحابي الكريم العظيم الذي كانت له طبيعةٌ خاصة فريدة بلغت فيه حداً كبيراً جعله يُعْرَفُ بها من بين بقيةِ الصحابة الكرام، فهو وإن اشتركَ معهم في عمقِ الإيمان، وبُغْضِ النفاق؛ فقد انفردَ عنهم في قدرتهِ الكبيرة على رؤيته مهما تكن مكامِنُه بعيدة.

ولهذا فإنه وَهَبَ الإسلامَ نفسَه كلَّها، ومضى في طريقه لا يعرف التردد، بل يزداد على الأيام مضاءً وعزيمة، ونقاءً وأمانة، وصدقاً في بيع نفسه لله عز وجل، يقوِّي من ذلك لديه إيمانهُ الراسخُ من جهة، واحتقارهُ الشديدُ للنفاقِ والمنافقين من جهة أخرى.

لقد اعتنقَ حذيفةُ ديناً قوياً، طاهراً، نظيفاً، شجاعاً، يحب الجهرَ والوضوح، والإبانةَ والصراحة، ويحتقر الجبنَ والكذب، والخِسَّةَ والنفاق، والأساليبَ الملتويةَ الحقيرة مما يحلو لبعض الناس أن يَعُدُّوه من الذكاءِ والدهاءِ وبُعْدِ النظر؛ ذلك هو الدينُ الذي اعتنقَه حذيفة.

أما المعلمُ الذي تلقّى ذلك على يديه الطاهرتين فهو محمدُ بنُ عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهو النقيُّ الواضح، الصادقُ الأمينُ الشجاعُ الصريحُ الذي يحبُ الأقوياء في الحق، الشجعانَ في الخير، ويكرهُ المرائينَ والمنافقين، والكاذبينَ والمخادعين.

ولمّا كان حذيفةُ تلميذاً نجيباً سبّاقاً؛ فقد نمت موهبتُه الكبرى وتألّقت.. ولمَ لا ودينُه الإسلام، ورسولُه محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وإخوانُه هم الصحابةُ الكرام!؟ لَكأنَّ حذيفةَ كان مُخْتَصَّاً بقراءةِ الوجوه، واستبطانِ السرائر، ومعرفةِ الدخائل المُسْتَسِرَّةِ المخبوءة.. ومن غيرِ ريبٍ كان له من ذلك حظٌّ كبير وافر جعل أمير المؤمنين عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه وهو المُلْهَمُ الذكيُّ الفطنُ يستدلُّ برأيه في اختيار الرجال.

ورجلٌ من هذا الطرازِ الكريم النادر لا ينبغي له إلا أن يكونَ بإيمانه وثيقاً عميقاً، ولا ينبغي له إلا أن يكونَ في ولائهِ كذلك.. وحقاً لقد كان حذيفةُ كذلك. يكشفُ عن هذا موقفهُ الضخمُ يومَ أحد، لقد شهدَ أباه يُصْرَعُ في ذلك اليوم المشهود، يُصْرَعُ بأيدٍ مسلمة قتلته عن خطأ وهي تحسَبُه واحداً من المشركين.

كان حذيفةُ يجاهد بصدقٍ ومضاء حين حانت منه التفاتةٌ فإذا به يرى أباه والسيوف تَنُوشُهُ من هنا وهناك فصرخَ: أبي أبي!!.. لكنَّ قدرَ اللهِ غالب، لقد جاءت الصرخة متأخرةً بعدَ أنْ حُمَّ القضاء.

وحين عَرَفَ المسلمون ما صنعوا بأبي حذيفةَ تولّاهم حزن، وأخذَهم وجوم، وسارعوا يعتذرون إليه عن خطأٍ غيرِ مقصود، لكنه نظر إليهم في حزنٍ وإشفاق، وجثةُ والدهِ الشهيدِ أمامَ ناظريه، وقال: "يغفرُ اللهُ لكم وهو أرحمُ الراحمين"، ثم مضى بسيفهِ في المعركةِ المتقدة يجاهد بصدقٍ ويقين.

موقفٌ نبيل -لا ريب- ذلك الذي كان من حذيفة، أن يسارعَ إلى العفوِ عن إخوتهِ الذين قتلوا أباه، ويدعو لهم بالمغفرة، لكنه ليس بعجيب.. ولِمَ العجب؟ ألم يكن من تلاميذِ مدرسةِ النُّبُوَّةِ المطهَّرة؟

على أن هذا الموقفَ النبيل أَتْبَعَهُ حذيفةُ بموقفٍ آخرَ نبيل، وذلك حين طفق يشتدُّ صوب المعركة المشبوبة تاركاً جثة والدهِ الشهيد دونَ أن يتوقفَ عندها، ولِمَ الوقوف!؟ لقد أفضى الوالدُ إلى بارئهِ.. وليس في الوقت متسعٌ لدفنهِ فالمعركة ضارية حامية.. وهي أَولى ما يتّجِهُ إليه الجَهْدُ الآن.. ولا ينبغي أن يتأخرَ ذو بلاء.. ولا ينبغي أن يقعدَ ذو غَناء.

إنه لن يترتبَ أيُّ تقصيرٍ على تأخيرِ دفنِ الوالدِ الشهيد، أما التأخرُ عن المبادرةِ إلى المعركة فإن تقصيراً كبيراً سوف يترتبُ عليه.. لذا فليسَ لحذيفةَ سوى البِدارِ إلى القتالِ الضاري العنيف.. وهكذا كان.

مضى البطلُ في المعركة ليصوغَ موقفاً آخرَ من مواقفِ النبلِ والبذل، والعزيمةِ والمضاء، يُضِيفُه إلى موقفهِ الأول حين نظرَ إلى مَنْ قتل أباه من المسلمين، وقال: "يغفرُ اللهُ لكم وهو أرحمُ الراحمين".

وانجابت سُحبُ المعركة، وهدأَ النَّقْعُ الثائر، وانصرفَ موكبُ الحاقدين عن أُحد، وبلغَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما كان من أمرِ أبي حذيفة، وكيف قُتِل؟ فأمر بأن تُؤَدَّى الدِيةُ عنه لكنَّ حذيفة أبى ذلك، وجعل دمَ أبيه الشهيد صدقةً على المسلمين.

يا لها من صدقةٍ غاليةٍ كبيرة! ما أروعَها إذ يجود بها حذيفة! وما أروعَ حذيفةَ وهو يتقدمُ بها في صدقٍ وطُهرٍ وحنان! وفي إخباتٍ كريم طلباً لرضوان اللهِ تعالى ومثوبتهِ.

هؤلاء المسلمون عجبٌ من العجب، وأُقْسِمُ لولا أن أخبارَهم وردت في أوثقِ الكتب وأصّحِ المصادر لبادرَ المرءُ إلى الشكِّ فيها واتهامِها.. لكن التمحيصَ التاريخيَّ الأمين يؤكدُ صحتَها وصدقَها، ويُوَثِّقُها ويجعلُها في مرتبةِ الحقائقِ الراسخة.

هؤلاء المسلمون عجبٌ من العجب، حقائقُ بطولاتِهم تفوقُ الأساطير، وشوامخُ مواقفهِم أكبرُ من الخيال، لكنَّها بعدَ ذلك كلِّه، الصدقُ كلُّه، النبلُ كلُّه، والعظمةُ والإيثار، والتفوقُ والطموح، والاستعلاءُ والشموخ.

وحذيفةُ رضي الله عنه واحدٌ من هؤلاء، وها أنت ترى له في يومِ أحد ثلاثةَ مواقف عاطرةً ناضرةً متألقة، فهو يدعو لإخوانهِ الذين قتلوا أباه بالمغفرة، وهو يدَعُ جثةَ الوالدِ الشهيد مسرعاً إلى المعركة لِيُبْلِيَ أحسنَ البلاء، ثم هو يتصدقُ بدمِ أبيهِ على المسلمين حينَ يأمرُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم له بالدية.

سلامٌ عليك يا حذيفة! وألف تحيةٍ لكل موقفٍ من مواقفِكَ يومَ أحد، وإنَّ لك سواها لمواقفَ أخرى جديرةً بأن يكتبَ عنها المؤلفون، ويستلهمَ تألُّقَها الشعراء، وتُصاغَ حولَها دُرَرُ البيانِ المؤمنِ الوضيء.

أيتها الأمة المسلمة!..

إن لكِ في مثلِ هاتيكَ المواقف عظةً وعبرة، وإن لك فيها لدرساً أيَّ درس، وإنها لَنِعْمَتِ الأُسْوَةُ والقدوةُ.

إنكِ اليومَ وأنتِ تقاتلين أعداءَ الله عز وجل وهم كثيرون أقوياء، وهم عليك مجتمعون، وهم على اختلافهِم يُوَحِّدُ مَكْرَهم بُغْضُهم لهذا الدين، وحقدُهم على هذا الإسلام، وكراهيتُهم لهذا القرآن، يخشون انتفاضةً منك شجاعةً كبيرة تُلْقيهم في مؤخَّرةِ الركب البشري، وتجعلُ قيادةَ الحضارة بأيدي المؤمنين الكرام الذين يريدون إنقاذَ البشرية اليوم من جاهليتِها الرعناء، جاهليةِ القرنِ العشرين، العاتيةِ الباغيةِ الفاجرة..

إنك اليوم والأمرُ هكذا والصراعُ ضارٍ عنيف جديرةٌ أن تعودي إلى مثلِ حذيفة، وإلى مثلِ مواقفِ حذيفة، وإنك إنْ فعلتِ يا أمتي الغالية، ستنفضين عنك غبارَ الكسلِ والعار، وتستعذبين حلاوةَ الإيمان، وتطمحين إلى صياغةِ رجالٍ كأولئك الرجال، ومواقف كهاتيكَ المواقف.

وإنك لفاعلةٌ ذلك بإذن الله، فأنتِ أمةٌ نجيبةٌ وَلُود، وها هو التاريخ يشهدُ أنكِ على مدارِ الزمن أنجبتِ الشجعانَ والقادة، والفرسانَ والأبطال، والكماةَ والغطاريف، وإنك أقوى ما تكونين حينَ تَعْنُفُ التحديات، ويشتدُّ الخصوم، ويَبْطَرُ الأعداء، ويحسبُ الناسُ أنَّ أمةَ الإسلام قد بادت أو كادت تَبِيدْ.

إنك إذ ذاك تخرجين من بينِ الجراح، ومن جثثِ القتلى، ومن الحُطامِ والرُكام، وتسارعين إلى بطولاتٍ حَسِبَها الناسُ قد مضى زمانُها، يحدوك الإيمان، ويقود خطاكِ القرآن، ويشدُّ عزيمتَكِ دَوِيُّ الأذان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين