هل تؤيد الضرب؟

أنا ضد الضرب أياً كان حجمه... كثيراً أو قليلاً.

وأياً كان الداعي إليه... ذنباً صغيراً أو كبيراً.

وأياً كانت آلة الضرب... اليد أو آلة أخرى.

وفي أي مكان من الجسم... علا أو سفل...استقبل أو استدبر.

ولا أراه ولا أحبذه ولا أفعله إلا في حالة الضرورة.

وأية ضرورة ؟

الضرورة القصوى، التي عبر عنها العرب قديماً بالمثل: آخرُ الدواءِ الكيُّ، والشاعر بقوله:

إذا لم يكن إلا الأسنة مركب *** فما حيلةُ المضطر إلا ركوبُها

ولا تكون - أي الضرورة - إلا في ذنب تكرر وقوعه أو شخص لا يقلع إلا بعقوبة رادعة أو سياط لاذعة، يعني بالعامية (ما بيفهم بالعيني... بالروحي)، وكأن لسان حاله يقول لك وقد أخذ بتلابيب ثيابك: خَيُّو ( تَعْنِي }أخي{ عندنا نحن السادة الحلبية ) أنا ما بَفْهَمْ إلا بالضرب، على حدِّ قول الشاعر:

العبدُ يُقرعُ بالعصا *** والحُرُّ تَكْفِيهِ المَقَاله

وفي رواية تكفيه الإشارة.

أثناء رحلتي الدراسية ضُرِبْتُ مراتٍ كثيرةً، وحتى لا أُتَّهَم بتزكية نفسي أو أطلب البراءة لها، وأظهرها بمظهر المظلوم، ومن باب الإنصاف - والإنصاف عزيز والإنصاف شريعة كما يقال - فإن بعضاً من المرات كنت أستحق فيها الضرب؛ حيث لم أكن بالطفل السوي ولا بالطالب العاقل ( أي الهادئِ عندنا نحن السادة الحلبية ) كما توحيه كلماتي، بل كنت مشاغِباً نوعاً ما، وما عدا ذلك من المرات فقد كنت مظلوماً بريئاً يا سادة.. صدِّقوني.

تصوَّروا أن مدرس الرياضة في الصف الرابع الابتدائي - وكان من الساحل السوري - أو سعني ضرباً – وبكل حقد وحنق وكأني يهودي إسرائيلي - على يديَّ بِعصاً مُنَجَّرَةٍ؛ وما جريرتي إلا أنني لم ألبس لِباس الرياضة - المفروض مزاجياً - المؤلف من فانيله وشورت، وكان البرد يومَها قاسياً سِمِّيْمِيَّاً ( مأخوذة من السَّمُوْمِ عند الحلبية )، ولو رأيتُه الآن أمامي لَدَلَقْتُ أقتابَه أمامه.

وفي خِدمة العَلَمِ ( الجيش ) ضربني ضابطٌ لأنني أنكرتُ ما أثبتَ، ورددتُ عليه قولَه، ولو رأيتُه الآنَ أمامي لأنزلتُه في الجَامُوْقَة – حفرة كبيرة تُوَجَّهُ إليها مياه المطبخ والقاذورات أكرمكم الله - ثم مَشَّيْتُه ( كُوَاعْ وَرُكَبْ ) ثم رحَّلتُه إلى ديارِ الآخرة.

وقد ضربَني والدي رحمه الله، ولو رأيتُه الآنَ لَقَبَّلْتُ يَدَهُ ورِجْلَه، فما ضربني إلا رحمة بي.

وَضُرِبْتُ في المدرسة الشرعية، ولو رأيتُ ضَارِبِيَّ لشكرتُهم بأجزل العبارات مع بعض العتبِ ؛ لأن بعضَ الضربِ هناك لمْ يكن مُبَرَّراً، وبعضَ المُبَرَّر لم يكن حَكيماً.

والضرب تأباه الأخلاق القويمة، وترفضه الطباع السليمة، وَدَعْ عنك عباراتٍ مُطْغِيَةً للضارب مِن مثل: الشِّدَّةُ تصنعُ الرجال.

فقسا ليزدجروا ومن يكُ راحماً *** فليقسُ أحيانأً على من يَرحم

فالشدة والقسوة لا تَتَعَيَّنَانِ بالضربِ، وإذا تعيَّنَتا فليكن غيرَ مُبَرِّحٍ، وهو القَيْد الذي وضعه الشرع في تأديب الزوجِ زوجتَه الناشزة - وليُقَسْ عليه تأديبُ الولدِ والتلميذِ - وهو الضرب الذي لا يجرحها، ولا يكسر لها عظمًا، ويجتنب الوجه والمَقَاتِل.

ولو جاز لي أن أزيد على هذه الشروط لزِدّتُ شرطَ تَجَرُّدِ الضاربِ – أياً كان – عن حظِّ النفس، وتحريرِ النية لتأديب المخطئ وتقويمِه - إن أسعف الوقتُ وضُبطتِ الأعصابُ ولم يتخلَّفِ العقل -.

وكان أحد اشياخنا - متَّعه الله بالعافية وأكرمنا بطول حياته - إذا أحوجناه إلى الضرب قال: نويتُ تأديبَ هذا الغلامِ، وأهوى بالسوطِ على أيدينا.

ولا تسل عن تَقَبُّلِنا لضربِه؛ لأن ضربه كان محضَ رحمة ووسيلةَ تنبيه على ما قال الشاعر:

له راحَة ٌ سَيرُها راحة*** ٌ تَمُرُّ على الوَجْهِ مَرَّ النَّسيمِ

وما أجمل تصرفاتِنا وأزهاها، إن هي خلُصت من حظوظ النفس وأوضارها وأذاها، أو لم يقلِ القومُ: النيَّةُ تُحيل العادةَ عبادةً.

أما ذاك المعلم الذي لا يَضربُ.. أما ذاك المُوَجِّه الذي لا يعرف غير التوجيه بالكلام، ولا يتقن عقوبة إلا عقوبة التنبيه بالملام... فذاك في القمة... وذاك الذي لا ينسى... وذاك الذي يستمطر منا الدعوات الطيبات... وذاك الخليق بقول الشاعر:

ضَحُوكٌ إلى الأبطالِ وهو يَروعُهم *** وللسيفِ حدٌّ حينَ يَسطو ورَونقُ

وأخيراً:

بعضُ الناس نَرجسيِّين زيادةً عن اللزوم، ومَلكيين أكثر من المَلِك – كما يقال في المثل الدراج – حين يرفضون الضربَ جملةً وتفصيلاً، دون أي اعتبار للظروف الملحة والأسباب الدافعة، ويرون الضارب إنساناً جاهلاً وتافهاً وغيرَ حضاري.

وبعضهم يشتط في حكمه أكثر ؛ فيَجِد على الإٍسلام، وينتقد أن أَوْرَدَ في وسائل علاج المشاكل الأسرية الضربَ، وما فهم منزع ذلك، وما أدرك ضوابطه، وخالَ أن فيه إهانة للمرأة، وتناسى أن جعل منها في الغرب – الذي يُجِلُّه ويعجب به وبحضارته – سلعة تباع وتشترى، فقليلاً من الإنصاف، وبعداً عن الإجحاف، وبعضاً من الواقعية يا سادة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين