نبيّ الخلق العظيم والأسوة الحسنة

لخَّص لنا القرآن الكريم شخصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلَّم: وهو الرسول المبلّغ للرسَالة عن ربّه، والداعية المبشّر بالدعوة بآية جامعة، هي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}[القلم:4]، وهذه الآية تجْمع إعجاز القرآن البيانيّ إلى إعجاز شخصيّة النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلَّم، تلك الشخصيّة التي حازت الكمال الإنسانيّ من أطرافه، وتربّعت على قمّته فلا تدانيها فيه قمّة.

لقد وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلَّم بعظمة الأخلاق، ولم يصفه بكريم الأخلاق، وعدّ العلماء أخلاقَ النبيّ صلى الله عليه وسلَّم معجزَة من أعظم معجزَاته ودلائل نبوّتِه، وبيان ذلكَ: أنَّ الموصوفَ بالأخلاق الكريمة قد يكون على خلقٍ فَاضل في بعض أموره دون بعض؛ فقد يكون سخيّاً كريماً، ولا يكون متَواضعاً للناس، ليّن الجانب، أوْ لا يكون ذا عفوٍ عمّن يسيء إليهِ، أو ينتقصه بعضَ حقّه.. وقد يكون رحيماً، ولا يكون حكيماً، وقد يكون خدُوماً للناس، يَسعى فِي مصالحهم، ويفَرّج كرباتهم، ولا يكون عفيفاً عَنْ أموالهم وحقوقهم..

وكثيراً مَا تكون أخلاق بعض الناس فاضلةً في حال دون حال.. فيعدّه الناس كريماً في أخلاقه، ويوصف بذلك لتحلّيه ببعض الأخلاق الفاضلة، التي تغطّي على شخصيّته كلّها، وتستر جوانب ضعفها وقصورها، بل واختلالها في كثير من الأحيان، كما أنّ وصف الإنسان بكريم الأخلاق قد يوحي بغلبة جانب الضعف في شخصيّته، أو العجز عن القيام بالحقّ أو تحصيله، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عن ذلك كلّه..

وكثيراً مَا تغطّي بعض الأخلاق الكريمة عَلى كثير مِن صِفاتِ الخلل، ومظاهر النقصِ فِي شخصيّة الإنسَان وسلوكه، فيتناسَاها الناس، أو يكادون، وتَصغر في عيونِهم، ويلتمسون لها المبرّرات، وقد يكون فيها ما يشين الإنسان، ويحطّ من منزلته وقدره..

أمّا الأخلاق النبويّة الشريفة فقد جمعت عظمة الأخلاق منْ أَطرافها، وملكت زمامها، وتمكّنت منها، وسلس لها قيادها، فهي كالماسة المنيرة من كلّ زواياها، أنّى نظرت إليها رأيت جوهر ذاتها يشعّ على ظاهرها وما حولها، ولمعان جانبها يوحي بتلألئ سائرها.. وذلك تقدير العزيز العليم، واصطفاؤه وتكريمه، جلّت ذاته، وتقدّست أسماؤه، و {... اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ... }[الأنعام:124].

ويشير الإمام الشاطبيّ رحمه الله في كتابه "الاعتصام" [2/339/ بتصرّف يسير] إلى شيء من ذلك بقوله: " وإنّما كان عليه الصلاة والسلام خلقه القرآن، لأنّه حكّم الوحي على نفسه، حتّى صار في علمه وعمله على وَفقِه، فكان للوحي موافقاً مذعناً ملبّياً، واقفاً عند حكمه.

وهذه الخاصّة كانت من أعظم الأدلّة على صدقه فيما جاء به عن ربّه، إذ قد جاء بالأمر وهو مُؤتمر، وبالنهي وهو مُنتهٍ، وبالوعظ وهو متّعظ، وبالتخويف وهو أوّل الخائفين، وبالرجاء وهو أوّل الراجين، وحقيقةُ ذلك كلّه أنّه جعل الشريعة المنزّلة عليه إمامه وحجّـته، ومرجِعَه ودليلَهُ، فاقتفى هديها في كلّ شأن، وحاكم إليها، وجاهد في سبيلها، حتّى استنارت معالمها، واستبان نهجها، محجّة بيضاء، لا يزيغ عنها إلاّ هالك ".

وإنّ عظمة أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلَّم، التي شهدت بها هذه الآية، تتجلّى في ثلاثة جوانب قد جمعها الله تعالى فيه، وأتمّها له على أكمل حال وأوفاه:

الجانب الأوّل: الخروج عن حظوظ النفس، وترك الانتصار لها، مهما جهل عليه الجاهل، أو تجاوز حدّه، وأساء إلى مقامه الكريم صلوات الله وسلامه عليه.

والجانب الثاني: العفو عند المقدرة، والتسامي عن المؤاخذة بما سلف من جرائم، بلا مَنٍّ ولا ترفّع.. والسيرة النبويّة الكريمة طافحة بذلك فيّاضة..

والجانب الثالث: اجتماع أمّهات الأخلاق والفضائل والكمالات فيه، في جميع الأحوال، وعلى أرفع مستوى، وأكمل حال، ووضع ذلك أحسن مواضعه، بقدر حكيم، ونظام كريم، بما لم تجتمع في غيره من الأنبياء والرسل، فضلاً عن أحد من البشر.

فهذه الجوانب الثلاثة قد اجتمعت في رسول الله صلى الله عليه وسلَّم على أكمل وجه، فكانت سرّ عظمة أخلاقه، ومعجزة من أجلى معجزاته: فالخروج عن حظوظ النفس، وترك الانتصار لها، لم يكن مرّة واحدة ولا مرّتين، بل في كلّ مرّة.. والعفو عند المقدرة، لم يكن في حال دون حال، بل في جميع الأحوال.. واجتماع أمّهات الأخلاق والفضائل والكمالات لم يكن في موقف دون آخر بل في جميع المواقف والأحوال.

ويَأتي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}[القلم:4] في مساق التدليل على صِدق النبيّ صلى الله عليه وسلَّم فيما جاء بِه من دعوى النبوّة، ونفي افتراءات المُشركين واتّهاماتهم له بالجنون أو غيره، ممّا يتنافى مع مكارم الأخلاق التي كان عليها، صلوات الله وسلامه عليه..

وأيّ نوْع جليل مِن الأدلّة هذا الدليْل، وهو بهذا البيان يدحض مفتريات المشركين، ويشيّد دعائم الحقّ المبين.؟!

إنّه يحمِل من الدلالات النفْسيّة والروحيّة، التي يطمئنُّ إليها القلب، وينشرح لها الصدر، وتسعد بها النفس، مثلما يحمل من الدلالة العقليّة القطعيّة الرصينة، التي تأبى أن يُكذَّبَ الصادق، أو يصدّق الكاذب، أو يُتّهم طاهر السيرة نقيّ السريرة..

وهذه الأخلاقيّة البيّنة في منهج الإسلام، لا تقبل النفعيّة المادّيّة، أو المكر والمراوغة، أو الغدر والالتواء.. وبخاصّة فيما يبرم من عهود وعقود، حتّى في التعامُل مع الأعداء والخصوم.. بينما نجد في مقابلها الأديان المحرّفة، أو النظم الوضعيّة، تفتقد إلى هذهِ الأخلاقيّة الرفيعة في التعاملِ، وتغيب عنها ولا تعرفها، وليس الأمر دعوى تدّعى بغير حجّة أو برهان، فالواقع الذي تضجّ منه أمم الأرض أوضح للعيان من كلّ بيان، ومن أنكر أو كابر فقل له: {... فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور}[الحج:46].

وإنّ أمّة الإسلام لهي أحوج ما تكون اليوم إلى إحياء منهج دينها الأخلاقيّ النبويّ في التعامل فيما بينها، والالتزام الدقيق بذلك، قبل أن تعلن عنه للناس، وتدعو إليه، ثمّ يراها الآخرون بعيدة عمّا تَدعو الناس إليه، مُفتقدة لأبسط ما يأمرها به دينها، ويلزمها به..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين