نبي الرحمة (36)

بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة للهجرة

غزوة ذات الرقاع:

سمع صلى الله عليه وآله وسلم باجتماع بني أنمار أو بني ثعلبة وبني مُحَارِب من غطفان، فأسرع بالخروج إليهم في أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه، واستعمل على المدينة أبا ذر أو عثمان بن عفان، وسار فتوغل في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له: نخل على بعد يومين من المدينة، ولقي جمعاً من غطفان فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال، وصلى بهم صلاة الخوف. وفي رواية البخاري: وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع، وللقوم ركعتان, وعن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت ذات الرقاع، لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا. وعن جابر: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين، فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أتخافني؟ قال:(لا). قال: فمن يمنعك مني؟ قال:(الله). قال جابر: فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا، فجئنا فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فها هو ذا جالس). ثم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. كان لهذه الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة, فقبائل غطفان لم تجترئ أن ترفع رأسها بعدها، بل استكانت حتى استسلمت ثم أسلمت، وبهذا تم كسر الأجنحة الثلاثة التي كانت ممثلة في الأحزاب وساد المنطقة الأمن والسلام، وبدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبيرة. وبعد الرجوع من الغزوة أقام صلى الله عليه وآله وسلم إلى شوال 7هـ. وبعث عدة سرايا. وهاك بعض تفصيلها:

١- سَرِيَّةُ غالبِ بنِ عبدِ الله اللَّيثيِّ إلى بني المُلَوَّح بقُدَيْد صفر أو ربيع الأول٧هـ: كان بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سويد، فبعثت السرية لأخذ الثأر. فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا وساقوا النعم، وطاردهم جيش كبير من العدو، حتى إذا قرب من المسلمين نزل مطر، فجاء سيل عظيم حال بين الفريقين. ونجح المسلمون بالإنسحاب.

٢-سرية حِسُمَى: جمادى الثانية ٧هـ.

٣- سَرِيَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلى تُرَبَة في شعبان ٧هـ. ومعه ثلاثون رجلاً، كانوا يسيرون الليل ويستخفون في النهار، وأتى الخبر إلى هوازن فهربوا، وجاء عمر فلم يلق أحداً فرجع إلى المدينة.

٤-سرية بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَارِيِّ إلى بني مرة بناحية فدك في شعبان ٧هـ، في ثلاثين رجلاً. خرج إليهم واستاق الشاء والنعم، ثم رجع فأدركه الطلب عند الليل، فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه، فقتلوا جميعاً إلا بشير فإنه ارْتُثَّ إلى فدك، فأقام عند يهود، حتى برأت جراحه، فرجع إلى المدينة.

٥-سرية غَالِبِ بْن عَبْد اللَّهِ اللَّيْثِيِّ في رمضان٧هـ إلى بني عُوَال وبني عبد ابن ثعلبة بالمَيْفَعَة، وقيل إلى الحُرَقَات من جُهَيْنَة, في مائة وثلاثين رجلاً، فهجموا وقتلوا من أشرف لهم واستاقوا نعماً وشاء، وقتل أسامة بن زيد مِرْداس بن نَهِيك بعد أن قال: لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فهلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟)

٦-سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر. في شوال٧هـ في ثلاثين راكباً. وذلك أن أسيراً بن زرام كان يجمع غطفان لغزو المسلمين، فأخرجوا أسيراً في ثلاثين من أصحابه، وأطمعوه أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يستعمله على خيبر، فلما كانوا بقرقرة نيار وقع بين الفريقين سوء ظن أفضى إلى قتل أسير وأصحابه الثلاثين.

٧- سَرِيَّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَارِيِّ إِلَى يَمَنٍ وَجَبَارٍ في شوال٧هـ. في ثلاثمائة من المسلمين، للقاء جمع كبير تجمعوا للإغارة على أطراف المدينة. فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا، وأصاب بشير نعماً كثيرة، وأسر رجلين، فقدم بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلما.

٨-سرية أبي حَدْرَد الأسلمي إلى الغابة: إن رجلاً من جُشَم بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى الغابة يريد أن يجمع قيساً على محاربة المسلمين. فبعث صلى الله عليه وآله وسلم أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعلم، فوصلوا مع غروب الشمس، فكمن أبو حَدْرَد في ناحية، وصاحباه في ناحية أخري، وأبطأ على القوم راعيهم حتى ذهبت فحمة العشاء، فقام رئيس القوم وحده، فلما مر بأبي حدرد رماه بسهم في فؤاده فسقط ولم يتكلم، فاحتز أبو حدرد رأسه، وشَدَّ في ناحية العسكر وكبّر، وكبّر صاحباه وشدّا، ففر القوم واستاق المسلمون الثلاثة الكثير من الإبل والغنم.

عمرة القضاء:

لما هلّ ذو القعدة أمر صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، ولايتخلف أحد شهد الحديبية، فخرجوا وخرج معه آخرون معتمرين، فكانوا ألفين سوى النساء والصبيان. واستخلف على المدينة عُوَيف بن الأضْبَط الدِّيلي، أو أبا رُهْم الغفاري، وساق ستين بدنة وجعل عليها نَاجِيَة بْن جُنْدُبٍ الأَسْلَمِيّ، وأحرم من ذي الحليفة، ولبى ولبى المسلمون معه، وخرج مستعداً بالسلاح والمقاتلة، خشية غدر قريش، فلما بلغ يَأجُج وضع الأداة كلها، الحَجَف والمِجَانّ والنَّبْل والرِّماح، وخلّف عليها أوْسَ بن خَوْلِيّ الأنصاري في مائتي رجل، ودخل بسلاح الراكب: السيوف في القرب. راكباً ناقته القصواء، والمسلمون متوشحو السيوف، محدقون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبّون. وخرج المشركون إلى جبل قُعَيْقِعَان- الجبل الذي في شمال الكعبة- ليروا المسلمين، وقد قالوا فيما بينهم: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمّى يثرب، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين. ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء، أمرهم بذلك ليري المشركين قوته، وأمرهم بالإضطباع، أي أن يكشفوا المناكب اليمنى، ويضعوا طرفي الرداء على اليسرى. ودخل صلى الله عليه وآله وسلم مكة من الثنية التي تطلعه على الحجون- وقد صف المشركون ينظرون إليه- فلم يزل يلبي حتى استلم الركن بمِحْجَنِه ثم طاف وطاف المسلمون، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرتجز [الشعر]متوشحاً بالسيف. وفي حديث أنس فقال عمر: يا بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(خَلِّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل) ورَمَلَ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهم المشركون قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمّى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. ولما فرغ من الطواف سعى بين الصفا والمروة، فلما فرغ من السعي، وقد وقف الهدي عند المروة، قال:(هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر) فنحر عند المروة وحلق، وكذلك فعل المسلمون، ثم بعث ناساً إلى يأجج، فيقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقضون نسكهم ففعلوا. وأقام صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ثلاثاً، فلما أصبح من اليوم الرابع أتوا علياً، فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا، فقد مضى الأجل، فخرج صلى الله عليه وآله وسلم، ونزل بسَرِف فأقام بها. ولما أراد الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمزة، تنادي، يا عم يا عم، فتناولها علي، واختصم فيها علي وجعفر وزيد، فقضى صلى الله عليه وآله وسلم لجعفر، لأن خالتها كانت تحته. وفي هذه العمرة تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ العامرية وكان صلى الله عليه وآله وسلم قبل الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى مَيْمُونَةَ، فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوجها إياه، فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمشي فبنى بها بسرف.

وسميت هذه العمرة بعمرة القضاء، لأنها وقعت حسب المقاضاة أي المصالحة التي وقعت في الحديبية، وتسمى بأربعة أسماء: القضاء، والقضية، والقصاص، والصلح.

سرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد عمرة القضاء:

بعد الرجوع من عمرة القضاء بعث عدة سرايا:١-سرية ابن أبي العوجاء: ذي الحجة٧هـ، في خمسين رجلاً بعثه صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني سُلَيْمٍ، ليدعوهم إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا، ثم قاتلوا قتالاً شديداً، وجُرح أبو العوجاء، وأسر رجلان من العدو.

٢-سرية غالب بن عبد الله إلى مُصابِ أصحاب بشير بن سعد بفَدَك: صفر٨هـ. بعث في مائتي رجل، فأصابوا من العدو نعمًا، وقتلوا منهم قتلى.

٣-سرية ذات أطلح: ربيع الأول ٨ هـ. حشدت بنو قُضَاعَةَ جموعاً كبيرة للإغارة على المسلمين، فبعث إليهم صلى الله عليه وآله وسلم كعب بن عُميرٍ الأنصاري في خمسة عشر رجلاً، فلقوا العدو، فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، وأرشقوهم بالنبل حتى استشهدوا كلهم إلا رجل واحد، فقد ارْتُثَّ من بين القتلى.

٤-سرية ذات عرق إلى بني هوازن: ربيع الأول ٨هـ. كانت بنو هوازن قد أمدت الأعداء مرة بعد أخرى، فأرسل إليه شُجاعَ بنَ وَهْبٍ الأَسديَّ في خمسة وعشرين رجلاً، فاستاقوا نعماً من العدو، ولم يلقوا كيداً.

يتبع.......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين