رجال ومواقف: عبد الله بن جحش يوم أحد

خرجت قريش في السنة الثالثة للهجرة الشريفة، زاحفةً نحو المدينة المنورة في جيش لجب لهَّام، يسوقها حقدٌ ضارٍ عنيف، ويحث خطاها شوق عارمٌ جيَّاشٌ للثأر من المسلمين، وَالانتقامِ لما حلّ بها يومَ بدر، قبل عام منصرم حين كانت أول معركةٍ بين الإسلام والجاهلية، وكانَ أولَ نصرٍ عزيز مؤزر سقط فيه من المشركين سبعون قتيلاً، وأسِر سبعون آخرون.

كانت قريش تريد الثأر إذن، وكانت صورُ قادتها وهم يَسقطون صرعى على أرض بدر كعتبة بن ربيعة، وأبي جهل بن هشام؛ ماثلة أمامها لا تزول ولا تريم، بل تؤجج نيران الحقد الأهوج المجنون.

وعسكرت عند جبل أحد، ذلك الجبل الحبيب الذي شهد أروع صور التضحية والصدق والفداء، وقد أجمع قادةُ رحلتها المشؤومة أن يستأصلوا الإسلام نهائياً، قتلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإبادة للمسلمين كاملة، حتى ينتهيَ أمرُ هذا الدين الجديد الذي أرَّق ليلهم، وأتعبَ خُطاهم، وأضنى أجسادهم، وألقى الهواجس في مضاجعهم، وجعل أمورهم تنتهي إلى ما يكرهون.

***

وخرج الجيش المسلم يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم صوب معسكر المسلمين في أحد، يسوقه الحنين إلى الجهاد، ويحث خطاه الشوق العارم للموت في سبيل الله طلباً لجنة الخلد الدائم، والنعيم الذي لا يزول. ووقف في صفه عبد الله بن جحش رضي الله عنه، وفي صدره رغبة في الجهاد جياشة، وعزم على الاستبسال والقتال، حار صادق نبيل.

كان عبد الله من أعظم أبطال غزوة أحد، ثباتاً وصدقاً، ومضاءً وتضحية، ولم يكن يدور في خلده سوى رجاءٍ كبير، رجاءٌ عملاق، أن يرويَ بدمه الطهور ثرى الجبل الكريم، ويثويَ عند سفحه المبارك شهيد صدق وتضحية ومضاء.

ولم يتوقف رجاؤه عند هذا الحد فحسب، بل كان يعظمُ ويمتد، إنه يرغبُ أن يُمَثَّلَ به بعد استشهاده، يجدع أنفه، وتقطع أذنه، ويعبث بوجهه النبيل أيدي الحاقدين الكافرين، ليزداد أجره وثوابه، وتعلو درجته ومكانته عند الله عز وجل.

دعا عبد الله بن جحش قبل المعركة فقال: "اللهم ارزقني غداً رجلاً شديداً في بأسه، فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلتَ: يا عبد الله!.. فيم جُدِعَ أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت".

وحين التقى الجيشان عند سفح أحد قاتل عبد الله قتال المستأسد الضاري، وصال وجال، ورمى بنفسه أنف الجلّى غير وجِلٍ ولا هيّاب. وتحقق رجاء البطل المقدام، فقد استشهد على يد أبي الحكم بن الأخنس، ومثَّل به المشركون، فكان شهيداً وفياً لإيمانه العظيم، وكان صورةً من أنبل صور الصدق والوفاء.

***

هنيئاً لك أيها البطل الكميُّ السريُّ، هنيئاً لك ما نلت، فقد فزت بما رجوت، وكسبْتَ ما أمَّلْت، لك تهنئة مضيئة ناضرة، ولك بشرى وضيئةٌ طاهرة.

فأبشر أيها البطل الكريم أبشر!..

أبشرْ فذلك ما سألتَ قضاهُ=ربٌّ هداكَ فكنتَ عندَ هُداهُ

آثرتَهُ ورضيتَ بين عبادِه=من صالحِ الأعمالِ ما يرضاهُ

قتلوكَ فيه، تردُّهم عن دينِه=صرعى، وتمنعُ أن يُباحَ حِماهُ

وبَغَوا عليك فعذبوا الجسد الذي=ما للكرامةِ والنعيمِ سواهُ

هي دعوةٌ لك ما بسطتَ بها يداً=حتى تقبَّلَ واستجابَ اللهُ(1)

لقد شهدتَ الجهادَ أروعَ ما يشهدُه الأبطال، وأبليتَ في الشدة أكرمَ ما يُبلي الرجال، وإنك لشهيد كريم، وإن الجنة منزل الشهداء، وأكرِمْ بالجنة! وأكرِمْ بالشهداء! فنعم الدار هي! ونعم السكان هم!..

ولقد رأيتَ حِمى الجهادِ فصِفْ لنا=ذاكَ الحمى القدسيَّ كيف تراهُ؟

ماذا جزاكَ اللهُ من رضوانِه=وحباكَ في الفردوسِ من نُعماهُ؟

ماذا أعدَّ لكلِّ بَرٍّ مُتَّقٍ=غَوَتِ النفوسُ فما أطاعَ هواهُ؟(2)

***

هي مَنزلة جُلّى تلك التي أصبتَ يا عبد الله، وهو شرفٌ عزيزٌ باذخ، شرف الشهادة في سبيل الله تعالى، ولقد دفعتَ المهر غالياً.. وهو دمك الطهور، لكنك أنت الفائز، وهل بعد رضوانه تعالى وجنته فوز؟

أرأيتَ عبد اللهِ كيف بلغتَهُ=شرفاً مدى الجوزاءِ دونَ مداهُ؟

دمُكَ المُطهَّرُ لو أتِيحَ لهالكٍ=أعيا الأُساةَ شِفاؤهُ لَشفاهُ

أيها البطل المقدام الشهيد! أيها المؤمنُ الصادقُ العظيم! أيها الثاوي في ثرى الجبلِ الأشم الذي يُحبُّنا ونُحِبُّه!.. لقد كانت أمنيتك أروع الأماني، وكان أمَلُكَ أطهرَ الآمال، وكانت رغبتك أنبل الرغائب.

لقد سموتَ على الدنيا ومتاعها، وطفقتَ مِرقالاً وثّاباً إذ المعركة عنيفة ضارية، ومضيتَ جوّالاً صوّالاً، إذ الرؤوس تقع، والسيوف تحصُد، والدماء تنثال، مسرعاً صوب غايتك الجليلة الكبيرة حتى جاءتك السعادة في أبهى صورها، فإذا بك تفوز، وإذا بِرجائك واقعٌ يتحقق، وإذا بأملك يعانقُ مصيرك العظيم على ثرى أحُد، لتكون من بعدُ أغرودة تضحيةٍ في فم الزمان، وأنشودة صدقٍ في ضمير الحياة.

*****

(1) شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.

(2) شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين