رجال ومواقف: مصعب بن عمير.. المهاجر الداعية شهيد أحد

هو مصعب بن عمير، الشاب الغني المنعم الذي قلب الإسلامُ حياتَه قلباً عنيفاً شاقاً، فإذا به تضحيةٌ ونُبل، وإيثارٌ وبطولة، وصدقٌ ووفاء. كان هذا الشاب المكي من أشهر فتيان مكة المكرمة، إن لم يكن أشهرهم جميعاً، ذلك أنه قد ولِد في مهاد الغنى والنعيم، ونشأ في أحضان الدلال، وشبَّ في ظلال خمائله، فكان له من ذلك كله نصيب وافر، يضاف إلى وسامة خَلْق عليها، وإشراق نفس، وصفاء سريرة؛ لذا كان شاباً لمّاعاً في المجتمع المكي، ينتشر أريجه العطِر النقي حيثما يكون.

وأصبحت مكة المكرمة ذات يوم على حديث النبأ الجديد يذيعه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، نبأ الدين الجديد الذي بُعِث به. فعَجِبت واستغربت، وأصبحت ذات يومٍ على نبأ مصعب بن عمير وقد انخلع من دين قومه، وتبع الدين الجديد فازداد بها العجب والدهشة. ذلك أن الفتى القرشي الذي ما كان في مكة كلها من هو أنعم عند أبويه منه، ترك كل ما كان فيه من ترف ونعيم، حباً لله ورسوله، لقد ودع حياته الماضية، واختار درباً جديداً يلتقي فيه بالمشقة والجوع، والنصَب والحرمان.

لقد صار الفتى الأنيق، العطِر النضر، لا يُرى إلا مرتدياً الملابس الخشنة الجافية، يجوع ويعرى، ويكدّ ويتعب، لكنه بإيمانه سعيدٌ هانئ، متفوقٌ متألق، يملأ العيون إعجاباً وجلالةً ومهابة.

* * *

ودارت الأيام دورتها فهاجر الفتى القرشي إلى الحبشة مرتين مع من هاجر من المسلمين، وحين عاد من هجرته الثانية إلى مكة المكرمة، ظل فيها نموذجاً للإيثار والنبل، والسمو والعظَمة، حتى إذا جاء الأنصار يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، كان مبعوث نبيه الكريم الأمين إلى يثرب يبشر فيها بدين الله عز وجل، ويهيئ الجو فيها للهجرة المرتقبة..

وكان مصعب نعم المبعوث الموفق! فقد نهض بالمطلوب منه أحسن النهوض، وأدّاه أجمل الأداء، فإذا بيثرب تتهيأ لتصير المدينة المنورة، دار الهجرة ومأرز الإيمان، ومثابة الجهاد، ومنطلق الدعوة إلى الله عز وجل، والقاعدة الأمينة الوفية لدينه الكريم، وتظل الأيام في سيرها الحثيث المتوالي، ويُصاب المشركون بهزيمة نكراء يوم بدر، ويدور العام على بدر، فإذا بهم في غزوة أحد وقد أعدوا أنفسهم لثأرٍ ضارٍ عنيف. وفي يوم أحد، كان لمصعب حديثٌ أي حديث.

* * *

أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد جيشه الصغير المؤمن، ووزع المسؤوليات على أصحابه الكرام، وكان لمصعب شرف اللواء لواء المعركة يحمله ويحميه، وقامت المعركة ضارية شديدة، وهبّت رياح النصر على المسلمين، لكن الرماة خالفوا أوامر النبي القائد عليه الصلاة والسلام، فانعكس الأمر، ودفع المسلمون بسبب هذه المخالفة فادح الثمن، فقد مضت سيوف المشركين تفتك بالعصبة المؤمنة، وكانت قبل قليل تولي الأدبار، وأدرك الفتى القرشي النبيل مصعب بن عمير الخطر العنيف، فمضى يرفع اللواء الذي دفعه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن مسؤوليته الآن تتركز في حفظ هذا اللواء شامخاً مرفوعاً مهما تكن التضحية من أجل ذلك، وهكذا فعل مصعب. يدٌ تحمل اللواء في عنف وشدة وإصرار، ويدٌ أخرى تحمل السيف تضرب به في قوة وبسالة ومضاء. ووصل زحف المشركين إلى مصعب، فما أخافه ولا هاله، وأقبل أحد فرسان المشركين عليه، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: "وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"..، وأشفق البطل على اللواء أن يقع فحمله بيده اليسرى، فضربها الفارس المشرك فقطعها.. فسارع البطل يحنو على اللواء ويجمعه بعضديه إلى صدره وهو يقول: "وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل".. ومرة ثالثة حمل الفارس المشرك على مصعب بالرمح فأنفذه فسقط مصعب وسقط اللواء.

وانتهت المعركة الضارية وطفق الرسول صلى الله عليه وسلم يتفقد جرحاها وقتلاها ووجد فيمن وجد مصعباً، ولما أرادوا دفنه لم يجدوا إلا نَمِرة؛ إذا وُضعت على رأسه تعرت رجلاه، وإذا وُضعت على رجله ظهر رأسه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخِر"، وألقى على مصعب نظرة وداعٍ حزينة، وقال له: "لقد رأيتك بمكة وما بها أرق حُلّةً ولا أحسنُ لِمَّة منك، ثم ها أنت!".

رحمك الله يا مصعب! وأجزل لك الثواب، وأكرم مثواك مع الأبرار الأطهار. لقد مضيت إلى خالقك الكريم، وإليك هذه الأبيات عسى أن تليق بك:

كما يورق الغصن عند الربيع=وينتفض الطير عند المطرْ

وتهدي النسائم ريح الصبا=لقلبٍ كليمٍ قبيل السّحَرْ

كما يزهر الغاب في طهره=ويخضرّ غض الشباب النضرْ

مضيت إلى الموت ثبت الخطى=وأشرقتَ كالصبح لمّا سفرْ

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين