نبي الرحمة (35)

غزوة خيبر ووادي القرى (2):

فتح الشطر الثاني من خيبر:

لما أتى صلى الله عليه وآله وسلم إلى ناحية الكتيبة فرض على أهلها حصاراً دام أربعة عشر يوماً واليهود لا يغادرون حصونهم حتى همّ صلى الله عليه وآله وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق، فلما أيقنوا بالهلكة سألوه الصلح.

المفاوضة: أرسل ابن أبي الحقيق إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: انزل فأكلمك؟ قال:(نعم) فنزل وصالح على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة، وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلّون بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض وعلى الصفراء والبيضاء-الذهب والفضة- والكراع والحلقة إلا ثوباً على ظهر إنسان، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئاً) فصالحوه على ذلك. وبعد المصالحة تم تسليم الحصون، وتم فتح خيبر.

قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد:

رغم المعاهدة غيّب ابنا أبي الحقيق مالاً كثيراً، غيّبا مَسْكًا- كِيساً مِن جِلْدٍ- فيه حُليٌّ لحُيَيِّ بنِ أخطَبَ. وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكنانة بن الربيع-ابن أبي الحقيق- وكان عنده كنز بني النضير فسأله عنه فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتى رجل من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال صلى الله عليه وآله وسلم لكنانة:(أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟) قال: نعم! فأمر بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي فأبى أن يؤدِّيه. فدفعه إلى الزبير،ثم دفعه إلى محمد بن سلمة، فضرب عنقه بمحمود بن سلمة-ومحمود قتل تحت جدار حصن ناعم ألقي عليه الرحى فمات-.

قسمة الغنائم:

أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يُجْلي اليهود من خيبر، فقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، فنحن أعلم بهبها منكم، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون يقومون عليها، فأعطاهم خيبر على أنّ لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر. وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم-يقدره ويصنفه- وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهماً، وجمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين النصف من ذلك، لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر وهو ألف وثمانمائة سهم لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم، لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب وكانوا ألفاً وأربعمائة وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم واحد. عن ابن عمر قال: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر، وعن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر. ولما رجعوا إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار ما كانوا منحوهم من النخيل.

قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين:

في هذه الغزوة قدم ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون أبو موسى وأصحابه. قال أبو موسى: بَلَغَنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه- أنا وأخوان لي- في بضع وخمسين رجلاً من قومي، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفراً وأصحابه عنده، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين فتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئاً إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم. ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلقاه وقبله وقال:(والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر).

الزواج بصَفِيَّة رضي الله عنها:

كانت صَفِيَّة في السبايا حين قُتل زوجها كنانة بن أبي الحقيق لغدره، ولما جُمع السبي جاء دِحْيَةُ الكَلْبِيُّ، فقال: يا نبي الله أعطني جارية من السبي. فقال: اذهب فخذ جارية. فأخذ صَفِيَّة بنت حُيَيِّ، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة وبني النضير، لا تصلح إلا لك، قال: ادعوه بها. فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(خذ جارية من السبي غيرها) وعرض عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام فأسلمت فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، حتى إذا كان بسد الصهباء راجعاً إلى المدينة حلت، فجهزتها له أم سليم فأهدتها له من الليل فأصبح عروساً بها وأولم عليها بحيس من التمر والسمن والسويق وأقام عليها ثلاثة أيام في الطريق يبني بها. ورأى بوجهها خضرة فقال: ما هذا؟ قالت: يارسول الله، رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه وسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئاً، فقصصتها على زوجي فلطم وجهي. فقال: تمنّين هذا الملك الذي بالمدينة.

أمر الشاة المسمومة:

لما أطمأن رسول الله بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب بنت الحارث- امرأة سلام ابن مشكم- شاة مَصْلِيَّةً أي: مَشْوِيَّةً، وقد سألت أي عضو أحب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السمّ، ثم سمّت سائر الشاة ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها ولفظها، ثم قال:(إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم) ثم دعا بها فاعترفت، فقال:(ما حملك على ذلك؟)قالت: قلت: إن كان ملكاً استرحت منه، وإن كان نبياً فسيُخْبَر، فتجاوز عنها. وكان معه بشر بن البَرَاء بن مَعْرور، أخذ منها أكلة فأساغها فمات منها.

قتلى الفريقين في معارك خيبر:

استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلاً، أربعة من قريش وواحد من أشْجَع وواحد من أسْلَم وواحد من أهل خيبر، والباقون من الأنصار.أما قتلى اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً.

استسلام فَـدَك:

لما بلغ صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر، بعث مُحَيِّصَة بن مسعود إلى يهود فَـدَك، ليدعوهم إلى الإسلام فأبطأوا عليه، فلما فتح الله خيبر قُذِف الرعب في قلوبهم، فبعثوا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يصالحونه على النصف من فدك، بمثل ما صالح عليه أهل خيبر، فقبل ذلك منهم، فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالصة، لأنه لم يُوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب.

غزوة وادي القُرَى:

لما فرغ صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر، انصرف إلى وادي القرى، وكان بها جماعة من اليهود، وانضاف إليهم جماعة من العرب. فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي وهم على تعبئة، فقُتل مِدْعَم-عبد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(كلا، والذي نفسي بيده إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتي أخذها يَومَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عليه نَاراً) فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشِراك أو شِراكين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(شراك من نار, أو شراكان من نار) ثم عبّأ صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للقتال وصفّهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عبّاد بن بشر. ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً، كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إلى الإسلام. وكانت الصلاة تحضر هذا اليوم، فيصلي بأصحابه ثم يعود، فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا، وغدا عليهم، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم، وفتحها عنوة، وغَنّمَه الله أموالهم، وأصابوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً. وأقام صلى الله عليه وآله وسلم بوادي القرى أربعة أيام، وقسم على أصحابه ما أصاب بها، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها، كما عامل أهل خيبر.

استسلام تيماء:

لما بلغ يهود تيماء خبر استسلام أهل خيبر ثم فدك ووادي القرى لم يبدوا أي مقاومة ضد المسلمين، بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح. فقبل منهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأقاموا بأموالهم وكتب لهم بذلك كتاباً، ونصه:(هذا كتاب محمد رسول الله لبني عادياً، إن لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء، الليل مد، والنهار شد)، وكتب خالد بن سعيد.

العودة إلى المدينة:

في طريق العودة إلى المدينة أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فقال صلى الله عليه وآله وسلم (ارْبَعُوا علَى أنْفُسِكُمْ، إنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولَا غَائِباً، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً) ورجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في أواخر صفر أو في ربيع الأول ٧هـ.

سرية أبان بن سعيد:

كان صلى الله عليه وآله وسلم يعرف أن إخلاء المدينة تماماً بعد انقضاء الأشهر الحرم ليس من الحزم قطعاً، بينما الأعراب ضاربة حولها تطلب غِرّة-غفلة- المسلمين للقيام بالنهب والسلب وأعمال القرصنة، فأرسل سرية إلى نجد لإرهاب الأعراب، تحت قيادة أبان بنِ سَعيدٍ، بينما كان هو إلى خيبر، وقد رجع أبانُ بنُ سَعيدٍ بعد قضاء ما كان واجباً عليه، فوافى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر، وقد افتتحها.

يتبع.......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين