الصراع في تونس بين الأيديولوجيا والجغرافيا السياسية

ـ الطبقة السياسية بجميع انتماءاتها وتوجهاتها عجزت عن تحقيق أي برنامج إصلاح جدي ينقذ البلاد من تدهور الأوضاع المعيشية

ـ ثمة قطاع عريض في العالم العربي يرى ما يحدث في تونس على أنه صراع أيديولوجي بين إسلاميين وعلمانيين، أو لتقاسم النفوذ والسلطة والثروة

ـ جميع الفرقاء على اختلاف توجهاتهم هم ضحية لعملية استقطاب سياسي دولي، وصراع محاور دولية وإقليمية، تدور رحاها في بلاد الربيع العربي

أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد سلسلة إجراءات، شملت إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب، وتعهد بملاحقة المفسدين والتعامل بحزم مع "الساعين للفتنة".

وقال سعيد إن قراراته جاءت بموجب الفصل 80 من الدستور، وكان قد عقد اجتماعا طارئا في قصر قرطاج، تناول الأزمة الصحية غير المسبوقة التي تواجهها تونس، بسبب تفشّي فيروس كورونا، والصراعات على السلطة.

وأوضح أنه جمّد كل اختصاصات المجلس النيابي، ورفع الحصانة عن كل أعضائه، مشيرا إلى أن هذه الإجراءات ضرورية لحماية الدستور ومصالح الشعب.

وجاء في كلمة الرئيس سعيد التي بثها التلفزيون: "قررت أن أتولى السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة أعيّنه بنفسي".

تحديات تواجه دول الثورات

تواجه الشعوب التي تنجح ثوراتها الشعبية، مشاكل وأزمات وتحديات كثيرة، سواء على مستوى أداء مؤسسات الدولة، التي تشهد حالات من الصراع بين القديم صاحب الخبرة والتجربة، والجديد الذي يسعى للبناء والتنمية وتقديم الخدمات بصورة أفضل، لكنه يفتقد الخبرة الكافية التي تمكنه من ترجمة مشاريعه وأفكاره إلى الواقع العملي.

لكن التحدي الأكبر يتجلى في تسيير عجلة الاقتصاد، حيث يرتفع سقف تطلعات المواطنين الذين قدموا التضحيات الكبيرة لكي يروا كل شيء أحسن، ويحصلوا على حياة أفضل، أو يتخلصوا من وضعهم البائس على الأقل، وإذ بهم يصطدمون بالواقع الصعب، حيث تعاني الحكومات والسلطات الوليدة من عقبات كثيرة أثناء تدوير عجلة الاقتصاد.

هذا ما رأيناه عقب ثورات دول أوروبا الشرقية، حين فشلت الحكومات التي تلت سقوط الأنظمة الاستبدادية عن تأمين وضع اقتصادي مستقر، يلبي تطلعات المواطنين الذين ثاروا على أنظمة الاستبداد والفساد من أجل شروط حياتية أفضل من خلال اقتصاد مزدهر.

في الحالات العادية من شأن الأوضاع الاقتصادية المتردية، أن تدفع قطاعا عريضا من المواطنين إلى التململ والتذمر وحتى العصيان، فكيف إذا كان هناك أطراف داخلية وخارجية تذكي تلك الحالة، من خلال حملات حرب نفسية، تجند لها جيوشا إلكترونية تبث الشائعات، وتستثمر كل شاردة وواردة ضد تلك الحكومات الوليدة. بالتأكيد سوف تنجح في تعقيد الأمور ودفعها لحالة من التذمر والعصيان.

لم تكن الحالة التونسية، رغم نجاحها في تجاوز عقبات كثيرة، بدعا عن حال باقي بلدان المنطقة التي شهدت ثورات. فقد عجزت الطبقة السياسية، بجميع انتماءاتها ومشاربها وتوجهاتها السياسية والأيديولوجية، عن تحقيق أي برنامج إصلاح جدّي ينقذ البلاد من تدهور الأوضاع المعيشية، ما فتح الباب على مصراعيه للتدخلات الخارجية.

طبيعة الصراع

ثمة قطاع عريض في العالم العربي، يرى ما يحدث في تونس، على أنه صراع أيديولوجي بين إسلاميين وعلمانيين، أو أنه صراع على تقاسم النفوذ والسلطة والثروة.

قد يبدو ذلك منطقيا، في ظل غياب قدرة وقابلية النخب السياسية والاجتماعية على التفاهم، حول الحد الأدنى من المشتركات الوطنية، وفي ظل غياب برنامج عمل وطني، قادر على تعبئة الرأي العام، لجهة الاستفادة القصوى من الموارد المادية والمعنوية المتاحة، ينقذ البلاد من تدهور الأوضاع المعيشية، ويجنبها الوقوع في حالة البؤس والفقر والحروب الأهلية، التي تعاني منها العديد من الدول العربية.

قد يبتهج فريق سياسي بانتصاره على فريق آخر، قد تفرح شريحة النخب الحاكمة بانتصارها في إحدى جولات الصراع، قد ينتشي فريق العلمانيين بإطاحتهم بالإسلاميين، قد يندب الإسلاميون حظهم العاثر، وتآمر جميع القوى ضدهم، لكن يجب عدم نسيان حقيقة أن ثقافة الإقصاء والتفرد هي التي أوردت دول المنطقة المهالك، كائنا من كان الطرف المقصي، وكائنا من كان الطرف المُقصى.

وتبقى الحقيقة الأكثر مرارة، أن جميع الفرقاء، على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم، إنما هم ضحية لعملية استقطاب سياسي دولي، وصراع محاور دولية وإقليمية، تدور رحاها في بلاد الربيع العربي.

وما زيارة أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي لتونس، وتصريحاته المشربة بنشوة النصر، إلا تأكيد بأن ما حدث في تونس، إنما هو جزء من صراع محاور إقليمية. محور يقف بجانب تطلعات شعوب المنطقة في الحرية والكرامة، ومحور مقابل يزج بجميع إمكاناته وقواه من أجل الحفاظ على منظومة الحكم القائمة، ويرى في ثورات الربيع العربي عنصر تهديد وجودي لكياناته.

ولن يجد قارئ هذه السطور عناءً كبيرا عند تصنيف بلدان المنطقة ضمن هذين المحورين. بغض النظر عن الشعارات والحجج والمبررات التي يسوقها كل طرف.

لقد أدى الفراغ الذي أحدثه الانسحاب/ الانكفاء/ إعادة التموضع/ التراجع الأمريكي إلى حدوث فراغات استراتيجية في مناطق عديدة من العالم، دفعت دول منطقة الشرق الأوسط نحو البحث عن شركاء استراتيجيين إقليميين، لسد الفراغ الأمريكي.

لم يعد خافيا على أحد اصطفاف بعض البلاد العربية في محور واحد مع إسرائيل، واصطفاف قوى أخرى في محور ثان تحت مسمى المقاومة والممانعة، وثالث يدعم تطلعات شعوب المنطقة في الخلاص من الاستبداد والفساد، والتحول نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

وكما هو معلوم فإن غالبية بلدان المنطقة، والأقطار العربية على وجه الخصوص، تعيش حالة من الفصام والخصام بين الحاكم والمحكوم، لا ترجع أسبابها إلى خلافات أيديولوجية بالضرورة. إنما بسبب إغلاق مؤسسة الحكم ساحات العمل السياسي، ومنع جميع النشاطات الجماعية، بما فيها نشاطات العمل المدني الطوعي.

إضافة إلى سد كافة الأبواب التي يمكن أن ينفذ منها ما هو غريب عن طبيعتها، ولا يدور في فلكها، ما يجعلها عرضة للتدخلات الخارجية باستمرار. وعوضا عن توحيد الصف الداخلي، تذهب لجهة جلب الدعم الخارجي على حساب المعادلات الداخلية.

احتدام صراع المحاور في منطقة الشرق الأوسط

تشهد منطقة الشرق الأوسط حالة استقطاب وصراع عالي الوتيرة، يتطور أحيانا لدرجة الاشتباك الساخن بين الأطراف.

لا تزال تفاعلات الهجوم على السفينة الإسرائيلية "M / T Mercer" قبالة السواحل العمانية، والذي تسبب في مقتل اثنين من أفراد طاقمها أحدهما روماني والآخر بريطاني، مرشحة للمزيد من التعقيد والتدويل، فيما تشير أصابع الاتهام إلى إيران.

دخول البريطانيين على خط الأزمة، من خلال "هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية" يعني أن القضية مرشحة للتدويل على غرار حادثة لوكربي.

الساحة اللبنانية هي الأخرى، مرشحة بقوة لتكون بؤرة صراع ساخنة بين المحاور، سواء من خلال المناوشات العسكرية التي حدثت مؤخرا، أو من خلال تعطيل عملية تشكيل الحكومة، بسبب "الفيتوهات" الإيرانية، بواسطة "حزب الله".

ويجب عدم نسيان حادثة تفجير مرفأ بيروت، فهي مرشحة لتطفو على السطح في أي وقت.

كما لا تزال الساحة السورية مسرحا للصراع، وميدانا لتصفية الحسابات. حيث يقوم الإيرانيون بالتصعيد عسكريا في درعا، لتخفيف الضغوط عليهم، ولاستخدامها ورقة تفاوضية في ملفاتهم الكثيرة.

في الجهة المقابلة يلوح الإسرائيليون بالرد الفوري حال تجاوز الإيرانيين الخطوط الحمراء المتفق عليها من خلال الوسيط الروسي.

مجمل هذه الاشتباكات يشير بوضوح إلى حالة من الاشتباك بين المحاور الإقليمية ومن فوقها المحاور الدولية تدور في منطقتنا.

لكي نفهم الصورة بوضوح، علينا وضعها في نطاقها الإقليمي والدولي، بعيدا عن الشخوص، والتجاذبات المحلية، والخلافات الأيديولوجية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين