وما بدَّلوا تبديلًا

ما أعظمه من ثناء من ربٍّ عظيم كريم، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور!

أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما بدَّلوا، ولا غيَّروا، مذ بايعوه حتى لقوا الله على الحق ثابتين، وبدينه مستمسكين.

والخير في أمة محمد باقٍ، وما من عصر إلا وفيه قائمون بحجة الله، هم امتداد للرعيل الأول، يمسِّكون بالكتاب، ويورِّثونه علمًا وسلوكًا.

إن الثبات على المبادئ من أعظم شيم الرجال، وركن حياة العلماء والدعاة، على اختلاف مشاربهم ومناهجهم وتوجهاتهم، ولا يرتجى من أهل التلوُّن والتذبذب والتبديل والتغيير شيء ليمكث في الأرض فينفع الناس.

إن الثبات فرع عن الصدق مع النفس والناس، وأصله الصدق مع الله عز وجل، وإن التلوُّن من خُلق الذين يخادعون الله، وما يخادعون إلا أنفسهم، ومهما يحاولوا من خديعة فأمرهم إلى انكشاف، وحقيقتهم إلى افتضاح.

وإني أحمد الله أن أدركت من أولئك الرجال الصادقين من كانوا قدوة في الثبات، وعلى طول العهد ما رأيت منهم أو سمعت عنهم تبديلًا أو تغييرًا.

كان أبي - نوَّر الله قبره، ورفع ذكره - يربِّينا بسيرة الشيخ السعيد سعيد الطنطاوي رحمه الله، وكان من أعزِّ أصحابه، صديق دراسة، وزميل مهنة، ورفيق درب، يتخيَّر لنا من مواقفه الصدع بالحق، والتصدي للباطل، يرويها لنا مرارًا في مجالسنا الأسرية حتى نتمثلها، فحفظناها، وسرى حب السعيد في دمائنا، ثم منَّ الله علي بلقائه بعد سنوات طوال، عشرين أو تزيد، فما وجدته إلا كما وصف أبي قوةً وحزمًا، ثباتًا وصدقًا، لا تأخذه في الله لومة لائم، ومات السعيد على ذلك، وإني لأرجو الله أن يكون سعيدًا بجواره.

ومع سيرة الشيخ السعيد رحمه الله كان يحدثنا عن الشيخين حسن حبنكة و أخيه صادق رحمهما الله تعالى، وكانا شيخيه في شبابه، وهما مضرب مثل في الرجولة، أدركت منهما الشيخ صادق، وقرأت عليه في الدرس العام في جامع منجك، وتتبعت أخباره من إخوان لي مقربين منه، فكان كما حدثني الوالد رحمه الله مدرسة في الصدق والثبات، لم يحن رأسه لطاغية مستبد، ولم يداهن في باطل قيد أنملة، ومات رحمه الله على ذلك، وأرجو الله أن يكرم نزله، ويعلي قدره، ويجزل أجره.

وسمعت عن الشيخ عبد الرحمن الباني من فضيلة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط رحمهما الله تعالى، وتاقت نفسي إلى لقائه من جميل ثناء الشيخ عبد القادر عليه، وأكرمني الله، فأدركته في آخر سني حياته، فوجدته كما وصف وأثنى، بل أكبر والله مما وصف وأثنى، ولقيته في هذه السنة لقاءات معدودة، ذكراها في النفس ولودة، لا أذكر أنه تناقض في قوله مرة مع طول مجالسه، وكثرة استطراداته، وتنوع موضوعاته ومناقشاته، ومات رحمه الله على ما شهدناه صدقًا ورسوخًا، وما وجدت ألم الفقد في قلبي على أحد بعد والدي رحمه الله كما وجدت حين بلغني نبأ وفاته على قصر مدة اللقاء به.

ولقيت شيخنا الحبيب أبا لطفي محمد الصباغ فكان لي معلمًا ومربيًا وشيخًا وقرأت عليه مع بعض إخواننا في الحديث والنحو والأدب والرقائق والأخلاق، ورأيناه في مجالس العلم، وزيارات الود، والمناسبات الخاصة، والمحافل العامة، وكان في آخر لقاء كما رأيناه في أول لقاء، هو هو، لم يتبدَّل علينا، ولم نحتَر في تفسير قول من أقواله، أو فعل من أفعاله، ومات على ما نعرفه به، وإني لأرجو له خيرًا عظيمًا لما رأيت من جهاده وعطائه، وصدقه ونصحه، وثباته ورسوخه.

وكان من أعظم نعم الله علي أن وفقني للأخذ عن شيخنا الجليل محمد نبيل التكريتي، بارك الله في عمره وعلمه وعمله، وأيَّده بتوفيقه، ومتَّعه بعافية الدنيا والدين، وقد شرُفت بصحبته عشر سنوات متتابعات، ثم اثنتي عشرة سنة بعضها كان التواصل معه عبر الهاتف ووسائل التواصل، وبعضها منَّ الله عليَّ بالاجتماع به في بلاد الغربة، وقرأت عليه في العقيدة والفقه والحديث والأصول واللغة والآداب والفتاوى، ورأيته في سائر أحواله في صحته ومرضه، وإقامته وسفره، ومع أولاده وضيفانه، وزواره من أصدقائه وطلاب العلم، وفي مجالس العلم التي خصني بها مع أحد إخواني، ومجالس العلم العامة التي اجتمعنا بها مع سائر إخواننا، وفي مجالس الأعياد، وأنعم بها مجالس عامرة بالعلم النافع والفتاوى المنضبطة الرصينة، وشهدته في بعض معاملاته المادية، وفي بعض تحكيمه في الخصومات، وفي بعض الأفراح والأتراح، وفي بعض النزهات، وسمعت منه في الفتن الكبار؛ في ١١ سبتمر، وحرب العراق، وفتنة لبنان في ٢٠٠٦، وأحداث الربيع العربي، والمحنة السورية، اثنتان وعشرون سنة ما تغيَّر فيها ولا تبدَّل، ولا تلوَّن ولا تناقض، وكان نعم الرجل حزمًا وجِدًّا، ونعم الشيخ صدقًا ونصحًا، ونعم المربي توجيهًا وإرشادًا، ونعم العالم تعليمًا وتزكيةً، لم أنكر من أمره شيئًا، قولًا أو فعلًا، ولا أذكر له تناقضًا، على طول مدة اللقاء والمخالطة، وكثرة الأحوال والأحداث والفتن التي عاصرته فيها، وكان لي خير قدوة، ومهما بسطت القول فيه، أجدني مقصرًا ولا أوفيه، عصمني الله به من فتن التكفير والتبديع التي اصطلى بنارها كثير من طلاب العلم، وعلمني من فقه الحياة وفقه الدين ما أرجو أن أقوم به، وأحسن تأدية حقه، وخير ما أخذت عنه ما كان يكثر من النصح به: الثبات الثبات في زمن الغربة. وكانت موعظته بمواقفه وعمله أبلغ من موعظته بقوله، أحسبه والله حسيبه ولا أزكيه على الله.

وأختم حديثي عنه بما ختم الذهبي رحمه الله ترجمة كعب الأحبار: (وكان حسن الإسلام، متين الديانة، من نبلاء العلماء).

أسأل الله أن يجزيه عني خير ما جزى شيخًا عن طالب، وعالمًا عن متعلم، وأن يكرمه بسعادة الدارين، ويكتبه في ديوان (وما بدَّلوا تبديلًا).

وقد تفكَّرت في أحوال من ذكرت من المشايخ والعلماء، وغيرهم ممن لقيتهم وأخذت عنهم وتأثرت بهم، على اختلاف مناهجهم، فمنهم الصوفي، ومنهم الأشعري، ومنهم السلفي، إلا أنهم اتفقوا جميعًا بأمر واحد هو الاستغناء بالله عن الناس، والترفع عن الدنيا بطلب ما عند الله والدار الآخرة، فثبتوا ولم يبدِّلوا، وصدقوا ولم يتناقضوا.

ومما يعظُم على النفس في هذه الأيام ما نسمعه ونراه، وما جرَّبناه من بعض المتصدِّرين في ميدان العلم والدعوة والعمل الإسلامي من تلوُّن وتناقض، وتذبذب وتبدُّل.

تعاشر الواحد منهم سنة فترى من تكذيب فعله قولَه، وتناقضه في الأمر الواحد على مر الأيام ما يغريك بالفرار منه، والبعد عنه.

إن هؤلاء شر فتنة للناس، ولا ينبغي لأحد من المسلمين أو غير المسلمين أن تصدَّه فعالهم عن دين الله، مهما طالت لحاهم، وارتفعت عمائمهم، وارتقت مناصبهم في المنظمات العالمية والروابط الإسلامية والجمعيات الخيرية، فهم لا يمثِّلون إلا أنفسهم، وحسابهم على ربهم بما أفسدوا في الأرض، وصدُّوا عن الحق، وراوغوا من أجل لُعاعات الدنيا الفانية.

الصدق هو معدن الرجال، ومن حُرم الصدق فقد نُفي من ديوان الرجال، ولا يقوم بدين الله إلا رجال؛ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما بدَّلوا تبديلًا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين