قبس من الهجرة النبوية ـ 2 ـ

قبس من الهجرة النبوية
(2 من 2)


بقلم: محمد عادل فارس


أحكام الهجرة
الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام:
كانت الهجرة في أيام النبيّ صلى الله عليه وسلم  من دار الحرب إلى دار الإسلام فرضاً، وفرضيّتها هذه باقية إلى يوم القيامة، والدليل على ذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  من أحاديث كثيرة تدلّ على بقاء هذه الفرضيّة.
فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد –ورجاله ثقات- عن معاوية . قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".
بل إن حكم فرضيّة الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، قد جاء في القرآن الكريم نفسه في نحو قوله تعالى: إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مُستضعَفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتُهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيراً. إلا المُستضعَفين من الرّجال والنّساء والولدان لا يستطيعون حِيلة ولا يهتدون سبيلاً. فأولئك عسى الله أن يعفوَ عنهم وكان الله عفوّاً غفوراً. سورة النّساء:97-99.
قال الزّمخشريّ: وهذا يدلّ على أن الرّجل إذا كان في بلد لا يتمكّن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب، وعلِم أنه في غير بلده أقوَمُ بحق الله، حقّت عليه الهجرة.
وقال الإمام الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: والذين آمنوا من بعدُ وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم.سورة الأنفال:75. :" وقال الحسن: الهجرة غير منقطعة أبداً، وأما قوله عليه السّلام "لا هجرة بعد الفتح" فالمراد الهجرة المخصوصة. فإنها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام.
وأما حديث "لا هجرة بعد الفتح"، وحديث "إن الهجرة قد انقطعت" فهي الهجرة من مكة إلى المدينة، إذ بعد فتح مكة صارت دار إسلام، ولا معنى للهجرة منها.
على من تجب الهجرة؟
تجب الهجرة على من تحققت فيه صفتان: أولاهما القدرة على الهجرة، والأخرى: العجز عن إظهار دينه, والقيام بشعائر عبادته في أرض الكفر، فهذا تجب عليه الهجرة بدينه إلى الله ورسوله استعلاءً لعقيدته، وتمرداً على الضّعف والاستكانة، وطلباً للعزّة والحريّة والكرامة. فإذا هاجر فقد التزم بالشّرع الحنيف، وإذا لم يهاجر فقد تقاعس عن الإذعان للحقّ، ورضي بالمعيشة في دار لم يستطع فيها إظهار دينه مع قدرته على الهجرة منها. وفي هذا التّقاعس جاء النّعي والتّنديد في الآيات  من سورة النّساء. إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم؟...
ولا تجب الهجرة باتفاق، ولا تستحبّ كذلك، على من فَقَدَ القدرة على الهجرة.
وهؤلاء هم المعنيّون بالاستثناء في قوله عزّ وجلّ: إلا المُستضعَفين من الرّجال والنّساء والولدان لا يستطيعون حِيلة ولا يهتدون سبيلاً. فهؤلاء الذين لا يقْدرون فعلاً على المقاومة, لشيخوختهم، وكذلك النّساء والأطفال الذين لا يجدون وسيلة تخلّصهم مما هم فيه من القهر والذلّ، ولا يعرفون طريقاً يستطيعون سلوكه للنجاة، إمّا للضّعف أو المرض، وإمّا للفقر والجهل بمسالك الأرض، فهؤلاء يُرْجى أن يعفو الله عنهم، لأنه سبحانه وتعالى لا يكلّف نفساً إلا وسعها. انظر تفسير المنار: ج5، ص191.
أما من كان قادراً على الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام لكنه يمكنه إظهار دينه بها، فإن الهجرة في حقّه لا تجب، ولكن تُستحبّ.
قال صاحب المغْنِي:
"الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: من تجب عليه وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار.
الثّاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجِز عنها، إمّا لمرض أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النّساء والولدان وشبههم.
والثّالث: من تُستحبّ له ولا تجب عليه، وهو من يقدر عليها لكنه يتمكّن من إظهار دينه وإقامته في دار الكفر، فتُستحبّ له ليتمكّن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم.
موالاة من لم يهاجر، مع قدرته على الهجرة
قال تعالى: والذين آمنوا ولم يُهاجروا ما لكم من وَلايتهم من شيء حتى يُهاجِروا. وإن استنصروكم في الدّينِ فعليكمُ النَّصرُ إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ، والله بما تعملون بصير.الأنفال:72.
أي الذين دخلوا في الدين الإسلاميّ عقيدةً، ولكنّهم لم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلاً... ولم يهاجروا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة الله، وتُدبِّر أمرَها القيادةُ المسلمة، ولم ينضمّوا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك داراً يقيم فيها شريعةَ الله، بالولاء للقيادة الجديدة والتّجمّع في تجمّع عضوي حركيّ، مستقلّ ومنفصل عن المجتمع الجاهليّ.
وُجِدَ هؤلاء في مكة، أو في الأعراب حول المدينة، يعتنقون العقيدة، ولكنهم لا ينضمّون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة، ولا يدينون فعلاً دينونةً كاملةً للقيادة القائمة عليه.
وهؤلاء لم يُعدُّوا أعضاء في المجتمع المسلم، ولم يجعل الله لهم ولاية كاملة مع هذا المجتمع. وهذا الحكم مفهوم ومنطقيّ مع طبيعة هذا الدين ومع منهجه الحركي الواقعيّ؛ فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاءً في المجتمع المسلم، ومن ثَمّ لا تكون بينهم وبينه ولاية. ولكن هناك رابطة العقيدة، وهذه لا ترتِّب – وحدها- على المجتمع المسلم تبعاتٍ تجاه هؤلاء الأفراد، اللهم إلا أن يُعتدى عليهم في دينهم، على شرط ألا يُخِلّ هذا بعهدٍ من عهود المسلمين مع معسكر آخر. ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم. فهذه لها الرّعاية أولاً.
هجرة أُخرى عامة تجب على كل أحد في كل أرض
وبعد أن تناولنا الهجرة الجسمانيّة التي تكون من بلد إلى بلد نتناول: هجرة أُخرى تعدّ أصلاً لهجرة الأجساد ألا وهي الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وهذه الهجرة يهاجر فيها المسلم بقلبه، من محبّة غير الله إلى محبّته، ومن عبوديّة غيره إلى عبوديّته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكّل عليه، إلى خوف الله ورجائه والتّوكّل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذلّ والاستكانة له... إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذلّ والاستكانة له.
 وهذا بعينه معنى الفرار إليه. قال تعالى: ففرّوا إلى الله. سورة الذّاريات:50.
والتّوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
والفرار إليه سبحانه يتضمّن إفراده بالطلب والتعبّد ولوازمهما، فهو متضمّن لتوحيد الإلهية التي اتّفقت عليها دعوة الرّسل الكرام.
وأما الفرار منه فهم متضمّن لتوحيد الربوبيّة وإثبات القدر، وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفرّ منه العبد، فإنّما أوجبته مشيئة الله وحده، فإنّه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. فإذا فرّ العبد إلى الله فإنّما يفرّ من شيء إلى شيء وُجِد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فارّ من الله إليه.
ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : "المُهاجِر من هَجَرَ ما نهى الله عنه". رواه البخاريّ. ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع، لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر.
والمقصود: أن الهجرة إلى الله تتضمّن هِجْران ما يكرهه، وإتيان ما يحبّه ويرضاه، وأصلها الحبّ والبغض، فإن المهاجر من شيء إلى شيء، لابدّ أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيُؤثِر أحبَّ الأمرين إليه على الآخر.
اللهم تقبّل هجرة من هاجر إليك إليك، وثبّت منه الأقدام، وهيّئ له مُراغَماً كثيراً وسَعة، واكتب له الأجر العظيم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين