فيتامين

كم في الدنيا من عين باكية، وقلب حزين؟!

كم فيها من الضعفاء والمعدومين؟! أولئك الذين تشتعل قلوبهم أسىً وحسرة، وتقف في وجوههم ألف ألف عثرة!

هذا يشكو علّةً وسقمًا، وذاك يئن حاجةً وفقرًا وعدمًا..

عزيزٌ قد ذل، وغنيٌّ قد افتقر، وصحيحٌ قد مرض، ومريض يصارعُ الموت..

عبادَ الله، الدنيا مصائب وهموم، ومحنٌ وبلاء وغموم، آلام تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف واليأس والعبُوُس، فإلى من يضجُّ أولئك المتعبون؟ إلى مَنْ أيديهم يمدوّن ؟ على من يلحّون؟ على باب المخلوقين أمثالهم يقفون؟! إذًا سيرونهم متأففين، غاضبين.

وذلك في قول الشاعر:

لا تقصُدِ المخلوقَ ربُّك أقربُ=من يقصد المخلوق حقًا يتعب

لا تسألنَّ بنيَّ آدم حاجةً وسل=الذي أبوابُهُ لا تُحْجَبُ

الله يغضبُ إن تركتَ سؤاله = وبنيُّ آدم حين يُسأل يغضب

نعم، إذا وقعت المصائب، وكثيراً ما تقع، وحلت النكبات، وما أكثرها!، وجثمت الكوارث، وما أثقلها!؛ نادى المصابون والمنكوبون: يا الله.. يا الله..

إذا أوصدت الأبواب أمام الطالبين، وأسدِلت الستور في وجوه الحائرين، ودُفع السائلون عن أبواب المسؤولين، صاحوا مستنجدين: يا الله.. يا الله..

بهذا الفيتامين العظيم "فيتامين دعاء"، تقوّى ذلك العاجز المسكين، وهو ليس من الصحابة، ولا من التابعين، بل هو من زماننا، بقصته أعاد أملنا، وأحيى رجاءنا..

وجد في الدعاء لروحه غذاء، ولنفسه دواء، ولجسده شفاء.. بالدعاء دعّم كيانه، ورمّم بنيانه، وتغلّب على كل ما شانه.. طرد من قلبه اليأس، وتعافى من كل ضعفٍ وبأس..

ها هو التاجر المعاصر، يروي حكايته، وبها يفاخر..

يقول: فتح الله عليَّ أبواب الرزق، فكنت أتقلبُ في خير ونعيم، ولكني في عزّ عطائي أصبت بالشلل الكلّي، ذهبتُ إلى كل بلد أرتجي من أطبائها العلاج، لكنَّ آمالي تكسّرت عند أعتابهم. وفي يوم من الأيام، أقعدني أولادي أمام التلفاز، شاهدت المصلين في بيت الله الحرام، بكيتُ بكاءً حارًا. نشّفت دموعي، واستدعيتُ أبنائي، وقلت لهم: أريدُ أن أزورَ المَلِك في بيته؟ تعجّب الأبناء مستفسرين: الملك؟! أيُّ ملك يا أبانا، وأنت لا تقدر على الحركة؟ أجاب: أريد أن أؤدّي العمرة لله.. فخذوني إلى بيت ربي. وبالفعل، استجاب لي أولادي، وحملوني إلى الطائرة، بعد أن هيئوا لي ظروف السفر المناسبة، لعجزي وضعفي. ولما وصلنا، قالوا: ننزل في الفندق لترتاح يا أبانا.. قلتُ: أبدًا، احملوني إلى الكعبة، واتركوني.

حملوني على كرسيّ، وقرّبوني من الكعبة، بعد أن أنزلوني إلى صحن الطواف. قلت: دعوني والملك. بدأتُ بالدعاء مع البكاء الشديد، لم يجرِ على لساني إلا هذه الكلمات: يا رب.. يا رب.. لن أخرج من بيتك إلا على قدميّ أو إلى القبر.. وألحّيت على الله بهذا الدعاء، بنحيب وخشوع وخضوع ودموع. مرّت ساعة، وأنا على هذه الحال. تعبت، وبدأ الألم يتسرب إلى رأسي، فأسندته على ظهر الكرسي، ونمت.

في هذه الإغفاءة، سمعت هاتفًا ينادي عليّ، ويقول: قم وامشِ، قم وامشِ، ويكرر الثالثة: قم وامشِ.. فاستيقظتُ: قُم فقمتُ، امشِ فمشيتُ، ثمّ تذكرت أني مشلول، فصرختُ وقلت بأعلى صوتي: يااااا ملك، ما خاب من لجأ إليك، وفوّض أمره إليك..

الدعاء، شأنه في ديننا عظيم، ومكانته فيه سامية، ومنزلته منه عالية.

ومن الدين والدعوة والدعاة، ها نحن نقف برجاء مع الدعاء، فقولوا لي بربكم: هل خاب من دعاه؟ هل ندم من سأله ورجاه؟ من غيرهُ يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف الكرب عمنّ ناجاه، ويسمع تضرع المظلوم وشكواه، ولا يخفى عليه نداء المنكوب إذا ناداه، أو من تحرّكت بالدعاء شفتاه؟!

الدعاء، ذلك الرابط الخفي بين العبد وربه، به تتحقق الأمنيات، وتتحسن الأحوال، وتهدأ النفوس، ويحصل المقصود. بالدعاء تجاب المطالب، وترتاح السرائر، ويعرف الداعي فضل ربّه عليه.

الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، وهو من أنفع الأدوية، وأجلّ الدفاعات النفسية، إنه عدوّ البلاء، يدافعه ويقاومه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل.

ألم يقل نبينا عليه الصلاة والسلام: "لا يردّ القضاء إلا الدعاء".

وقد شرح الغزالي رحمه الله هذا الحديث قائلًا: "إن من القضاء ردّ البلاء بالدعاء، فالدعاء سببٌ لردّ البلاء، واستجلاب الرحمة، فكما أن الترسّ سببٌ لردّ السّهام، وكما أن الترسَ يدفعُ السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان"..

يقول أحد الصالحين: "تذاكرتُ، فقلتُ: ما جماع الخير؟ فإذا الخير كثير: صلاة وصيام وغيرُهما. وإذا كل الخير في يدِ الله، وإذا أنتَ لا تقدِرُ على ما في يدِ الله إلا أن تسأله، فيعطيك. فاستخلصت أن جماعَ الخير هو الدعاء".

وقد صدق عُمَرْ بن الخطاب رضي الله عنه، في قوله وحُسْنِ ظنه: " إني لا أحمل همّ الإجابة، ولكن أحملُ هم الدعاء، فإذا أُلهِمْتُ الدعاء، فإن الإجابة معه".

ولذلك، فإن أعجزَ الناس من عجز عن الدعاء..

ومن خزينة سيد العابدين، معلّمنا وقدوتنا في التوجه والافتقار لرب العالمين، هذه الجرعات من الوصايا "بفيتامين دعاء". يقول صلى الله عليه وسلم: " الدعاءُ هو العبادة"، ثم قرأ: (وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين). وفي الحديث: "أفضل العبادة الدعاء". وعنه صلى الله عليه وسلم: "ليس شيئٌ أكرمَ على الله من الدعاء".

وهنا تأتي الأسئلة الخطيرة: لماذا إذًا ندعو فلا يستجاب؟ ونلهج فلا يفتحُ لنا؟ هل المشكلة في اليدين المرفوعتين المغموستين في الخطايا؟ أم في المقلتين الدامعتين وهما تجوبان في الرزايا؟ أم بات اللسان يتحرك به تحركًا آليًا، وترفع فيه الأيدي ارتفاعًا شكليًا؟ ما هي "مقامات الدعاء" مع البلاء؟ ما هي أجواؤه المطلوبة لضمان الإجابة المرغوبة؟

مع "فيتامين دعاء" نكمل، فلحديثنا بقية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين