استقامة الصحابة رضي الله عنهم في الإيمان وائتمانهم في تبليغ الدين

سؤال:

ورد إلي سؤال من الأخ العالم شعيب الحسيني: يا شيخ! أفدني في مسألة وجود المنافقين في صفوف الصحابة، كيف تحقق التمييز بينهم وبين الصحابة الكرام رضي الله عنهم جميعا؟ بينما نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراقب حذيفة في جنازة الناس ثم يشارك فيها، هل كانوا مندسين خبيئين فيما بينهم ولا يعرفهم الصحابة؟ فكيف يمكن التوقي من دسائسهم في طعن الدين؟ وقد عد في الصحابة الوليد بن عقبة، وعبد الله بن أبي سرح، وابن وائل وغيرهم من صدرت منهم الخطايا والزلات في عهد الخلفاء الراشدين، فكيف تصدق القاعدة الحديثية: عدالة الصحابة على العموم من غير جرح فيهم. أسئلة تنشأ في الذهن، والقلب يترضى على جميع الصحابة والحمد لله.

الجواب

إن هذا السؤال يدل على حسن قصد صاحبه إن شاء الله، فقررت أن أجيب عنه في مقال منشور ليستفيد هو وغيره من سائر المسلمين، وقسمت الجواب إلى عناصر جاعلا لها عناوين فرعية مبينة توخيا لتجلية الأمر، فإنه من أخطر مسائل الدين، وقد ضلت فيه أقوام، هدانا الله أجمعين.

تمهيد

تمر الهند وعامة بلاد المسلمين بأصعب الأوضاع وأحرجها، تستوجب من العلماء وأولي الأمر علاجها في حكمة بالغة وتوق حازم وتأن كبير، وذلك بإعادة المسلمين إلى دينهم الحنيف، وردهم إلى كتابهم المجيد، وإلزامهم سنن سيد المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وربطهم بأصحابه الغر الميامين المجاهدين في سبيل الدعوة وتعليم الدين، وتوحيد كلمتهم، وقل من علماء عصرنا من انتبه إلى الخطر الداهم ومواجهته، فعامتهم وأتباعهم مشغولون بأمور جزئية بسيطة تفرق بين المسلمين، وتوزعهم أحزابا وفرقا متناحرة، وبلغ السيل الزبى وطم الوادى على القرى أن استثيرت في الهند فتنة مشؤومة نمت عن غفلة أهلها، وزادهم بؤسا وشقاء وتشتتا وتشرذما، ألا وهي فتنة الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خير القرون وأفضل هذه الأمة على الإطلاق رضي الله عنهم أجمعين، وجعلنا محبين إياهم موالين.

استقامة الصحابة رضي الله عنهم في الإيمان

اعلموا أن الصحابة رضي الله عنهم أصح الناس إيمانا، وأصلحهم أعمالا، وأعلاهم أخلاقا، ثابتة مناقبهم، ومستفيضة فضائلهم، وفائحة محاسنهم، دلت عليها آيات الكتاب البينات، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الواضحات، منها قوله تعالى: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود" سورة الفتح الآية 29.

أخرج الشيخان البخاري ومسلم في أصح كتابين على وجه المعمورة على الإطلاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير القرون قرني، وأخرج الشيخان أيضًا في كتابيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الصحابة أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه". (الاستيعاب لابن عبد البر 1/1).

فضل الخواص منهم:

وقد وردت آيات كثيرة وأحاديث صريحة في فضل خواص الصحابة والصفوة المختارة منهم: الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم سائر العشرة المبشرة، وأمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته الطاهرات، وغيرهم من آحاد الصحابة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وأخبر بمناقبهم، رضي الله عنهم أجمعين.

فضل عامة المهاجرين والأنصار:

وتلاهم في الفضل عامة المهاجرين والأنصار، منصوصا عليه في القرآن والسنة، قال الله تعالى: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم" سورة التوبة الآية 100، فقوله "اتبعوهم بإحسان" شملهم جميعا، رضي الله عنهم ورضوا عنه.

فضل أصحاب الحديبية:

وهم أكثر من أربعمائة وألف رجل وامرأة، وما أروع ما أثنى الله تعالى به عليهم إذ يقول: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا". سورة الفتح الآية 18.

فضل من أسلم بعد فتح مكة:

قال الله تعالى: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولٰئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنىٰ، والله بما تعملون خبير". سورة الحديد الآية 10، قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره: "يقول تعالى ذكره: وكل هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله، وقتالهم أعداءه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل"، ثم نقل الطبري أقوالهم.

النفاق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:

كان الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: المسلمون، والكفار، والمنافقون، والقرآن الكريم حافل بذكرهم والكشف عن أحوالهم وصفاتهم.

النفاق في الأعراب:

وكان أغلب النفاق في الأعراب الذين أسلموا طمعا، تظاهروا بالطاعة ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، قال تعالى: "الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله". سورة التوبة الآية 97.

النفاق في المدينة:

وكان في المدينة عبد الله بن أبي ابن سلول سيد قبيلة الخزرج، وكاد أن يؤمره أهل المدينة على أنفسهم قبل أن يصل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما هاجر إليها خاب رجاؤه وأضمر له العداء ودبر له كل كيد، وتبعه أناس مثله أو ضعفاء في الإيمان، قال الله تعالى عنهم: "وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة، مردوا على النفاق لا تعلمهم، نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين ثم يردون إلىٰ عذاب عظيم". سورة التوبة الآية 101.

هل مات المنافقون كلهم على النفاق؟

قد أشاع الرافضة وأذنابهم أن المنافقين تناموا وتكاثروا حتى امتلأت بهم المدينة، بل افترى قوم منهم افتراء عظيما إذ زعموا أن لم يبق منهم على الإيمان إلا ستة نفر، فما أجرأهم على الكذب والوقاحة، قتل الأفاكون.

لا يخفى على من قرأ كتاب الله ونظر في التاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت على الدعوة صابرا محتسبا حتى أنشأ جماعة كبيرة على الإيمان وطهارة القلوب وزكاء النفوس، ولم يزل أمرهم في ازدياد حتى توفاه الله تعالى، كما قوي بصحبته وتعليمه إيمان الضعفاء، ودل على ذلك قوله تعالى: "قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا، إن الله غفور رحيم" سورة الحجرات الآية 14، و"لما" يفيد النفي إلى وقت التكلم، وتوقع الإثبات بعد، ففي الآية نفي دخول الإيمان في قلوبهم وقت نزولها، وتوقع دخول الإيمان في قلوبهم بعد ذلك، وأخبر بطريقة العلاج بقوله "وإن تطيعوا الله ورسوله"، وزاد الرجاء بقوله "إن الله غفور رحيم".

فالمنافقون تاب أكثرهم وقوي إيمانهم، وكذلك دخل الإيمان في قلوب عامة ضعفاء المسلمين، وكانوا مادة الإسلام في الدعوة والجهاد، وضعف أمر النفاق في المدينة بفتح مكة وموت عبد الله بن أبي، ولم يبق على النفاق إلا بضعة عشر رجلا، وكذلك خالطت بشاشة الإيمان قلوب الأعراب، وهم الذين وجههم أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى جبهات القتال في العراق والشام، ولم يمت منهم على النفاق إلا عدد قليل من أمثال ابن جرموز قاتل الزبير بن العوام رضي الله عنه.

لماذا اختص حذيفة دون أولي الأمر من الصحابة بأسماء المنافقين؟

كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أسر إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أسماء المنافقين، وضبط عنه الفتن الكائنة في الأمة.أخرج الشيخان في كتابيهما عن حذيفة رضي الله عنه، قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه"، وقد ناشده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أأنا من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدا بعدك. وكان عمر إذا مات رجل يسأل عن حذيفة، فإن حضر الصلاة عليه صلى عليه عمر، وإن لم يحضر حذيفة الصلاة عليه لم يحضر عمر.

لعل سائلا يسأل: لماذا لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أولي الأمر بعده بأسماء المنافقين؟ وما له اختص حذيفة بذلك دون أبي بكر وعمر؟

فالجواب أن الله تعالى أجرى أمور الدنيا على الظاهر، فلم يكلِّف نبيه صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من خلقه أن يطلعوا على أسرار القلوب، وهو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، فإنه هو الذي يحاسب عباده يوم القيامة، وهو اليوم الذي يحصل فيه ما في الصدور، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالظاهر وكذلك الخلفاء بعده، وفي ذلك حكمة عظيمة حتى لا يحابي أولو الأمر في العدل، ويجتنبوا الظن الذي يؤدي صاحبه إلى الإثم، بل وقد ورد النهي عن تتبع السرائر، أخرج الشيخان في كتابيهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقتُ أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكفَّ عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لي: يا أسامة، أقتلْتَه بعدما قال لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا، قال: فقال: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قال: فمازال يُكرِّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.

وقد يخبر الله تعالى أنبياءه بشيء من الغيب رحمة بهم ونصرة للحق الذي معهم، فأطلعه الله على الفتن وأسماء المنافقين الذين لج بهم النفاق، وهم بضعة عشر شخصا، ولم يخبر بأسمائهم عامة الصحابة مراعاة للمصلحة العامة، وائتمن عليها رجلا أمينا حتى يدفع الشر عن المسلمين إذا احتيج إلى ذلك.

وجوب عدم الخوض في مثل هذا:

علم من ذلك أن المسلمين لا يحتاجون إلى أن يطلعوا على أسماء المنافقين أو أن يستكشفوا سرائر الناس، وروي عن بعض الخلفاء: "إنما نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر"، وقال ابن عبد البر في التمهيد: "أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن أمر السرائر إلى الله"، وأخرج البخاري في صحيحه عن عمر رضي الله عنه قوله: "إنما كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم"، وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: "إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس"، وقال العلامة الشوكاني: "وكذلك حديث "إنما نحكم بالظاهر" وهو وإن لم يثبت من وجه معتبر فله شواهد متفق على صحتها ومن أعظم اعتبارات الظاهر ما كان منه صلى الله عليه وسلم مع المنافقين من التعاطي والمعاملة بما يقتضيه ظاهر الحال". نيل الأوطار 1/369.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين