ائتمان الصحابة رضي الله عنه في تبليغ الدين

الصحابة رضي الله عنهم قوم اصطفاهم الله تعالى لصحبة نبيه، وجعلهم شهداء على البشر كافة وأمناء على رسالته، وبهم حقق معنى قوله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وقوله: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا"، وقوله: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا"، فبههم انتشرت رحمة الله في الآفاق، وكانوا هم المبشرون والمنذرون في مشارق الأرض ومغاربها.

ولم يأتمنهم الله ورسوله إلا لصدقهم وعدالته، وقد ثبت تعديلهم على نوعين: تعديل خاص، وتعديل عام.

ولم يأتمن المسلمون المنافقين في أمر الدين قط، قال المرداوي في التحبير شرح التحرير 4/1995: "قال الحافظ المزي: من الفوائد أنه لم يوجد قط رواية عمن لمز بالنفاق من الصحابة رضي الله عنهم".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية 8/474: "والصحابة المذكورون في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذين يعظمهم المسلمون على الدين كلهم كانوا مؤمنين به، ولم يعظم المسلمون ولله الحمد على الدين منافقا".

التعديل العام:

قد ثبت من الاستقراء التام أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلغوا الدين كما هو، لم يحرفوا آية من آيات الكتاب، ولم يكذبوا على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم نجد قولا واحدا كذبوا فيه على نبيهم صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أجمع العلماء كافة على تعديلهم وتزكيتهم أجمعين غير مستثنين منهم رجلا ولا امرأة.

قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: "فهم خير القرون، وخير أمة أخرجت للناس، ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته، ولا تزكية أفضل من ذلك، ولا تعديل أكمل منها". الاستيعاب 1/3.

وقال الحافظ ابن الصلاح رحمه الله في مقدمته (ص171): "إن الأمة مجمعة علي تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم، فكذلك؛ بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحسانا للظن بهم، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة " انتهى.

وقال الإمام النووي رحمه الله: "الصحابة كلهم عدول، من لابس الفتنة وغيرهم، بإجماع من يعتد به". التقريب والتيسير ص92.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "اتفق أهل السنة على أن الجميع أي الصحابة عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة". الإصابة في تمييز الصحابة 1/10.

وليس من معنى العدالة عدم الوقوع في خطأ أو إثم، فهذا لم يقل به أحد، وإنما معناها أنهم صادقون غير متعمدين للكذب فيما نقلوه عن الله ورسوله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 1/306-307: "الصحابة يقع من أحدهم هنات، ولهم ذنوب، وليسوا معصومين، لكنهم لا يتعمدون الكذب، ولم يتعمد أحد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم إلا هتك الله ستره".

وقال أبو بكر بن العربي رحمه الله: "وليست الذنوب مسقطة للعدالة إذا وقعت منها التوبة". العواصم من القواصم ص 94.

التعديل الخاص:

وكان من الصحابة من تولى أمر الأمة، ومن اعتمده المسلمون في تعليم القرآن، ونشر السنة، والفقه، والفتوى، ونقل الأخبار، ورواية الأحاديث، فكان لا بد أن يحصل لهم تعديل خاص من النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الخلفاء الأربعة، وسائر العشرة المبشرة، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، رضي الله عنهم، فقد عدَّلهم النبي صلى الله عليه وسلم وزكاهم وأثنى عليهم أبلغ ثناء، مما جعل المسلمون يقدمونهم في فهم الدين وبيانه على غيرهم.

وممن حصل لهم تعديل خاص قوم من الصحابة لم ينقل عنهم كثير فقه أو حديث، ولكن لهم مآثر ينوه بها تنويها، وعلى رأسهم خالد بن الوليد، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وسأخص بالذكر الأخيرين منهم لما وقع فيهما أناس بعيدة عنهم السعادة.

معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين، ملك الإسلام، أبو عبد الرحمن، القرشي الأموي المكي، قيل: إنه أسلم قبل أبيه وقت عمرة القضاء، وبقي يخاف من اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أبيه، ولكن ما ظهر إسلامه إلا يوم الفتح، حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب له مرات يسيرة، وحدث أيضا عن أخته أم المؤمنين أم حبيبة، وعن أبي بكر، وعمر، روى عنه ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وأبو صالح السمان، وأبو إدريس الخولاني، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وسعيد المقبري، وخالد بن معدان، وهمام بن منبه، وعبد الله بن عامر المقرئ، والقاسم أبو عبد الرحمن، وعمير بن هانئ، وعبادة بن نسي، وسالم بن عبد الله، ومحمد بن سيرين، ووالد عمرو بن شعيب، وخلق سواهم، وحدث عنه من الصحابة أيضا: جرير بن عبد الله، وأبو سعيد، والنعمان بن بشير، وابن الزبير، ابن سعد: حدثنا محمد بن عمر، حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن عمر بن عبد الله العنسي، قال معاوية: لما كان عام الحديبية، وصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، وكتبوا بينهم القضية، وقع الإسلام في قلبي، فذكرت لأمي، فقالت: إياك أن تخالف أباك، فأخفيت إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله من الحديبية وإني مصدق به، ودخل مكة عام عمرة القضية وأنا مسلم. وعلم أبو سفيان بإسلامي، فقال لي يوما: لكن أخوك خير منك وهو على ديني، فقلت: لم آل نفسي خيرا، وأظهرت إسلامي يوم الفتح، فرحب بي النبي صلى الله عليه وسلم وكتبت له، وعبد الرحمن بن أبي عميرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمعاوية: اللهم اجعله هاديا، مهديا، واهد به، حسنه الترمذي، وعن أبي الدرداء، قال: ما رأيت أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من أميركم هذا، يعني معاوية، مات في رجب سنة ستين وعاش سبعا وسبعين سنة، مسنده في "مسند بقي" مائة وثلاثة وستون حديثا. وقد عمل الأهوازي مسنده في مجلد. واتفق له البخاري ومسلم على أربعة أحاديث، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة.. (سير أعلام النبلاء 3/120-163)

وسأل عمر حذيفة بن اليمان: أفي عمالي أحد من المنافقين؟ قال: نعم، واحد. قال: من هو؟ قال: لا أذكره. قال حذيفة: فعزله، كأنما دل عليه. أسد الغابة ص 248.

ومعلوم أن معاوية رضي الله عنه لم يعزله عمر بن الخطاب، فثبتت براءته من النفاق.

وعمرو بن العاص وائل الإمام أبو عبد الله، ويقال أبو محمد السهمي، هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما في أوائل سنة ثمان، مرافقا لخالد بن الوليد، وحاجب الكعبة عثمان بن طلحة، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بقدومهم وإسلامهم، وأمر عمرا على بعض الجيش، وجهزه للغزو، له أحاديث ليست كثيرة، تبلغ بالمكرر نحو الأربعين، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة أحاديث منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، وروى أيضا عن عائشة، حدث عنه ابنه عبد الله، ومولاه أبو قيس، وقبيصة بن ذؤيب، وأبو عثمان النهدي، وعلي بن رباح، وقيس بن أبي حازم، وعروة بن الزبير، وجعفر بن المطلب بن أبي وداعة، وعبد الله بن منين، والحسن البصري مرسلا، وعبد الرحمن بن شماسة المهري، وعمارة بن خزيمة بن ثابت، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو مرة مولى عقيل، وأبو عبد الله الأشعري، وآخرون.

روى محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ابنا العاص مؤمنان، عمرو وهشام.

قلت: هذه تزكية عظيمة رغم أنوف الروافض، وروى عبد الجبار بن الورد، عن ابن أبي مليكة، قال طلحة: ألا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ إني سمعته يقول:عمرو بن العاص من صالحي قريش، نعم أهل البيت أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله، وعن قيس بن سمي أن عمرو بن العاص قال: يا رسول الله ! أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ؟ قال: إن الإسلام والهجرة يجبان ما كان قبلهما. قال: فوالله إني لأشد الناس حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأت عيني منه ولا راجعته. (سير أعلام النبلاء 55-78).

الصحابة المسؤول عنهم:

مضى ذكر عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأترجم فيما يلي للآخرين:

عبد الله بن سعد ابن أبي سرح بن الحارث، الأمير، قائد الجيوش، أبو يحيى القرشي العامري، من عامر بن لؤي بن غالب. هو أخو عثمان من الرضاعة، له صحبة ورواية حديث. روى عنه الهيثم بن شفي، ولي مصر لعثمان، وقيل: شهد صفين، والظاهر أنه اعتزل الفتنة، وانزوى إلى الرملة، قال مصعب بن عبد الله: استأمن عثمان لابن أبي سرح يوم الفتح من النبي صلى الله عليه وسلم وكان أمر بقتله. وهو الذي فتح إفريقية، قال الدارقطني: ارتد، فأهدر النبي دمه، ثم عاد مسلما، واستوهبه عثمان. قال ابن يونس: كان صاحب ميمنة عمرو بن العاص، وكان فارس بني عامر المعدود فيهم، غزا إفريقية، نزل بأخرة عسقلان، فلم يبايع عليا ولا معاوية، توفي سنة تسع وخمسين.(سير أعلام النبلاء 3/33-35)

والوليد بن عقبة الوليد بن عقبة ابن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الأمير، أبو وهب الأموي، له صحبة قليلة، ورواية يسيرة، وهو أخو أمير المؤمنين عثمان لأمه، من مسلمة الفتح، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق وأمر بذبح والده صبرا يوم بدر، روى عنه أبو موسى الهمداني، والشعبي، وولي الكوفة لعثمان، وجاهد بالشام، ثم اعتزل بالجزيرة بعد قتل أخيه عثمان، ولم يحارب مع أحد من الفريقين. وكان سخيا، ممدحا، شاعرا، وكان يشرب الخمر، وقد بعثه عمر على صدقات بني تغلب، وكان مع فسقه والله يسامحه شجاعا قائما بأمر الجهاد. (سير أعلام النبلاء 3/412-416).

والذي يظهر أن الوليد بن عقبة قد تاب من فعله ذلك وحسنت توبته، ولذلك استعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على صدقات بن تغلب، وولاه عثمان بن عفان رضي الله عنه الكوفة. انظر: البداية والنهاية (11/604) فلم يكونا رضي الله عنهما يستعملانه، إلا وهو عندهما قوي أمين عدل غير فاسق. وقال السخاوي في فتح المغيث 3/112: "وأما الوليد وغيره ممن ذكر بما أشار إليه فقد كف النبي صلى الله عليه وسلم من لعن بعضهم بقوله: (لا تلعنه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)، كما كف عمر عن حاطب رضي الله عنهما قائلا له: "إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، لا سيما وهم مخلصون في التوبة فيما لعله صدر منهم، والحدود كفارات، بل قيل في الوليد بخصوصه: إن بعض أهل الكوفة تعصبوا عليه فشهدوا عليه بغير الحق، وبالجملة فترك الخوض في هذا ونحوه متعين".

الخلاصة

فتبين مما ذكر أن للصحابة تعديلا عاما وتعديلا خاصا، والمخصوصون بالتعديل الخاص هم الذين انتشرت أحاديثهم وفتاويهم، وكلا الجمعين نحبهم ونتولاهم، ونتبرأ ممن تبرأ منهم.

أما ابن أبي سرح والوليد بن عقبة وأمثالهما فندعو لهم ونترضى عنهم لما لهم من مآثر جليلة وأعمال عظيمة في الإسلام، وليسوا من فقهاء الصحابة ولا من السابقين الأولين، ولم يرو عنهم إلا شيء يسير جدا ليس من عماد هذا الدين، قال ابن عبد البر في الاستيعاب 4/1556: "لم يرو الوليد بن عقبة سنة يحتاج فيها إليه".

وقال العلامة المعلمي في الأنوار الكاشفة ص 271 عن الوليد بن عقبة: "هذا الرجل أشد ما يشنع به المعترضون على إطلاق القول بعدالة الصحابة، فإذا نظرنا إلى روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم لنرى كم حديثا روى في فضل أخيه، وولي نعمته ؛ عثمان؟...وكم حديثا روى في فضل نفسه ليدافع، ما لحقه من الشهرة بشرب الخمر؟ هالنا أننا لا نجد له رواية البتة، اللهم إلا أنه روي عنه حديث في غير ذلك لا يصح عنه، وهو ما رواه أحمد وأبو داود من طريق رجل يقال له: أبو موسى عبد الله الهمداني عن الوليد بن عقبة قال: "لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم، فجيء بي إليه وأنا مطيب بالخلوق فلم يمسح رأسي، ولم يمنعه من ذلك إلا أن أمي خلقتني بالخلوق، فلم يمسني من أجل الخلوق". هذا جميع ما وجدناه عن الوليد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأنت إذا تفقدت السند وجدته غير صحيح لجهالة الهمداني. وإذا تأملت المتن لم تجده منكرا، ولا فيه ما يمكن أن يتهم فيه الوليد، بل الأمر بالعكس فإنه لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، وذكر أنه لم يمسح رأسه... أفلا ترى معي في هذا دلالة واضحة على أنه كان بين القوم وبين الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم حجر محجور؟".

فاعلموا أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل المؤمنين بعد النبيين، وأبر الناس قلوبا، وأصدقهم لهجة، وأسبقهم عدالة وأمانة، وأن وجود المنافقين لا يقدح في عدالتهم، ولا يتطرق الشك إلى رواة الحديث.

واتقوا الله الذي سيحاسبكم يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولا انتماء ولا ولا ولاء، ويوم يكون خصيمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم دون أصحابه.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين