قراءة هادفة فيما يجب أن نستفيده من الهجرة

بقلم: الشيخ حسن قاطرجي 


 مما لا شك فيه أن الهجرة النبوية المباركة مثالٌ صارخ على أن هذا الدين حتى وإنْ تخلّى الناسُ عن نصرته ونصرة الفئة المؤمنة الصادقة التي تحمله أو خافوا من ذلك، بل حتى وإن تألّب عليه العالم ودهاقنة الشرّ الذين يتزعّمونه ويحاربونه بذريعة مضلِّلة خادعة يسمّونها (محاربة الإرهاب) فإنّ الله هو ناصره.
 وها هو الله سبحانه وتعالى يقول تعليقاً على خذلان الناس للرسول صلى الله عليه وسلم يوم دعا في مكة المكرمة إلى توحيد الله وطاعته وحاربوه حرباً لا هوادة فيها، يقول:
[إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {التوبة:40}
 يُعتَبر حدثُ الهجرة من أهمّ وأخطر أحداث المسيرة النبوية المباركة التي غيَّرت وجه التاريخ وأسَّست لحضارة إنسانية رائعة عَمَرَتْ الحياة بِقيَم الحقّ والعدالة، والفضيلة والسماحة، والأخوّة الإنسانية والعبادة الخالصة الربّانيّة.
 بل يُعتبر هذا الحدث من أعمق أحداث التاريخ الإنساني دلالةً على أثر العقيدة في الإنسان، وقوة تأثير الدين وحبّ الله تعالى في النفوس. ولئن تكررت في التاريخ القديم والمعاصر الهجرات البشرية – الفردية والجماعية – بحثاً عن الرزق أو هرباً من الحروب والمجاعات إلا أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ تتميّز في أنها هجرة جماعية لم تكن بدافع دنيوي، كما لم تكن بسبب حرب طاحنة أخرجتهم من بلدهم، أو بسبب قَحْط أو جَدْب أو ضائقة معيشية واقتصادية، وإنما خرجوا طواعية تدفعهم محبّتُهم لدينهم واستجابتُهُم لقائدهم – رسولِ الله صلى الله عليه وسلم - في خطواته لصناعة الحدث التاريخي انتصاراً للعقيدة وإقامةً للكيان الذي يستقلّون به في إدارة شؤون حياتهم وَفْق أحكام الشريعة التي آمنوا بها وتحت قيادة هذا القائد العظيم المرسل من عند الله سبحانه وتعالى.
 فهي هجرة عقائدية تتصل بدافع الإيمان والقناعة الفكرية بنظام حياة جديد: الولاء فيه لله والخضوع فيه لشرعه.
 ولقد خلّد القرآن الكريم ذكْرَهم وشهد الله على نيّاتهم وأهدافهم في قوله عزّ وعلا: [...الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحشر:8}
 من هنا فإن تقصيراً فاضحاً وتسطيحاً مؤسفاً نقع فيهما عندما نتعاطى مع هذا الحدث ومع سائر الأحداث التاريخية أو المناسبات الاجتماعية والدينية على النمط التقليدي الذي يدل على جمود العقول وركود النفوس حين تقتصر على عبارات الثناء والإشادة بالماضي المجيد في تجمّعات أو احتفالات نتداعى إليها: يعلو فيها الضجيج، ويتبارى فيها الخطباء، ويكثر فيها – في أحيان – النفاق والتملّق... فتأتي بمردود عكسي فلا تحرِّك العقول لأخذ العبرة وإسقاط الدِّلالات على المسيرة الحاضرة، ولا تثير الفكر لعَقْد المقارنات بين الماضي المتألِّق والواقع المعاصر المنهزم من أجل تحديد أسبابه والتعرُّف على سنن الله فيه، ولا تستنفر العزائم لترجمة أمل النهوض الحضاري في واقع حيّ، أو لنَفْض غبار التبعية والذَّيْليّة وبالتالي صناعة الحياة الكريمة التي يصوغها منهاج النبوة في العقيدة والعبادة والتربية والسلوك والعلاقات الاجتماعية والحكم والعلاقات الدَّوْلية والسياسة الداخلية والخارجية، ومن هنا كان العمل والسعي وفَقْ برنامج منهجي متدرّج من أجل (إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة) من أعظم واجبات المسلمين اليوم حتى ولو استغرقَ ذلك منهم عقوداً زمنية واستهلك جهوداً مضنية من طاقات أجيال متتابعة حتى يأذن الله بظهور وعده: [وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ] {النور:55} 
 ولذلك فإن أسخف مظاهر الإساءة إلى هذه المناسبات التاريخية: تحويل التعبير عن ذكراها إلى مسيرات واحتفالات يغلب عليها الطَّرَب ويُتنافَس فيها على إرضاء أهل الدنيا، بدل أن تكون فرصة لتزكية النفوس وتعميق الإيمان وتجديد معاني الحب والفداء لدين الله، ومناسَبَة لدعوة المسلمين إلى توثيق ارتباطهم بالكتاب والسنّة، ولتحريضهم على التخلِّي عن النفسية المنهزمة والعقلية المتخلِّفة، ولتربيتهم على إخلاص التوحيد والكفر بالطواغيت بدل الاستخذاء لهم والتمسُّح بأعتابهم لأن الله جعل الكُفْرَ بهم قبل الإيمان به – سبحانه – للَفْت الأنظار إلى توقف صحة الإيمان به تبارك وتعالى على البراءة من الطاغوت والكفر به وذلك في قوله جلّ وعلا: [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {البقرة:256}
 وفي ظلال ذكريات حدث الهجرة التاريخي الذي يستحضره المسلمون مع بداية كل عام هجري جديد يجدُرُ التوقف عند أهم الدلالات في قراءةٍ هادفة لتأصيل منهجية التعامل مع التاريخ عامة والمناسبات الدينية خاصة، لتكون هذه المنهجية في خدمة المشروع الإسلامي الحضاري المعاصر الذي يهدف إلى هداية البشرية إلى منهج الله وإنقاذها من أزماتها وشقائها وإلى إقامة النموذج الإسلامي السليم للإنسان والمجتمع والدولة ... النموذج الذي به تقوم الحُجّة بأن هذا الدين هو وحده الحق وأنه رحمة للعالمين.
الرصيد الإيماني ثروة الدعوات ومَوْقِد التضحيات
فقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بتربية الإيمان في نفوس الصحابة اعتناءً ليس فوقه اعتناء، وأعطى الأولوية لتنمية الرصيد الإيماني لديهم طيلة ثلاثَ عَشْرةَ سنةً قبل الهجرة، فأثمر حبّاً عجيباً منهم لله جعلهم لا يتوانَوْن عن بَذْل ما يُرضيه تعالى شأنُه وتقدّستْ أسماؤه. وظهرت النتيجة في مسارعتهم للهجرة تَوْقاً للعيش في مجتمع مسلم لا يُفتنون فيه عن دينهم.
وتيرة عالية من التضحية
هذه الوتيرة تتجلّى في تضحيات لافتة رائعة في الفداء كتضحية سيدِنا الإمام الراشد عليّ بن أبي طالب حيث رَضِي وهو شابٌ يافع في زهرة شبابه بالمخاطرة بحياته في النوم على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ الهجرة، وكقصة السيدة أم سلمة في خروجها صباح كلِّ يوم تبكي لفوات فرصة الهجرة مع زوجها صابرةً على انتزاع وليدها منها من قِبَل أهل زوجها... بقيَتْ كذلك إلى أنْ تمكَّنَتْ من الهجرة بعد عام كامل، وكتضحية السيد الجليل صاحب رسول الله الأول الإمام الراشد أبي بكر الصديق حيث كان أوّلَ كلامه عند إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالإذن من الله له بالهجرة: الصحبةََ يا رسول الله، وكقصة الصحابيّ صُهَيْب الرُّومي الذي ضحّى بماله كلِّه لقريش مقابل تركه يُكْمِل هجرته فنزل فيه قول الله تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ] {البقرة:207}
وغيرها من قَصَص التضحية المُدهشة الكثيرة التي لا بدّ أن يتربّى عليها المؤمنون في كل زمن، عكس ما يستشري الآن – في بعض الأحيان – في صفوف الدعاة والعاملين للإسلام من نُشْدان السلامة والانكفاء عن التضحية ولو على حساب الثبات على المبدأ وتلبية مصلحة ظهور تعاليم الدعوة ومفاهيم الإسلام.
المشاركة النسائية في مسيرة الدعوة
لقد أبرزت الهجرة وعيَ المرأة الصحابية ومسارعتها إلى تلبية حاجات الدعوة، كما يظهر من مشاركة عدد كثير من النساء في الهجرة كأُمّ سلمة وليلى بنت حَثْمة والسيدة فاطمة وأختِها اُمِّ كلثوم ابنتَيْ رسول الله، وزوجة أبي بكر أمِّ رومان وابنتَيْه: عائشة وأسماء، ونساء آل جحش، وكثيراتٌ غيرُهن، عدا من كُلِّفن بمهمات دقيقة وربما خطيرة من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم، كالشابّة الفدائية، النشِطة الواعية الذكية أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
تجنيد كل الطاقات
فقد شارك في صناعة حدث الهجرة الرجال والنساء، والشباب والفتيات، والأغنياء والفقراء، مما يدل على حُسْن توظيف الطاقات كافة لخدمة القضية الإسلامية... هذا التوظيف يُعتبر مقدمة ضرورية للحصول على نصر الله تعالى.
الوعي السياسي
إن انتشار ضعف الوعي السياسي لدى كثير من المسلمين اليوم علامة على الاستسلام اللاواعي لمخططات أعداء الإسلام والرضوخ لمقولة (فصل الدين عن السياسية)، كما أنه علامة على استجابة العقل المسلم لتداعيات (الغزو الفكري الأجنبي). في المقابل نجد أن الصحابة والصحابيات من خلال أحداث الهجرة واعون للأحداث السياسية الجارية؛ وأبرز مثال على ذلك ما قالته السيدة عائشة رضي الله عنها – كما أخرجه عنها البخاري في صحيحه -: "كان يومُ بُعاث – وهو اليوم الذي تقاتلت فيه الأوس والخزرج في المدينة قبل مَقْدمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها - يوماً قدّمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فقدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملأُهم وقُتِلتْ سَرَوَاتُهم – أي أشرافُهم – وجُرِحوا، فقدّمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام".
 وفي هذا الخبر من الدِّلالات على الوعي السياسي وتتبُّع ما يجري وحُسْن الربط بين الأحداث ما لا يخفى على المتدبّر.
الانضباط المتميّز
ويظهر ذلكَ في التزام سيدنا عليّ وعبد الرحمن بن أبي بكر وعامر بن فُهَيْرة وأسماء بنت أبي بكر بمهماتهم بمنتهى الدقة، مما يسَّرَ نجاح الخطة وتفويت فرصة القبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جنّدتْ قريشٌ لأجله طاقاتِها وأغرَتْ بجائزة مُغْرية لمن يفوز بهذا السَّبْق. ولا يخفى مدى أهمية التربية على الانضباط المتميز في نجاح الدعوة الإسلامية وتحقيق النظام والتفوّق على الأعداء.
وأخيراً: موقع الدولة في فكر العاملين للتمكين لهذا الدين
لقد كان واضحاً للصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه لهم بالهجرة ينتقل بهم إلى دار يأمنون فيها لإقامة الدولة الإسلامية الأُولى على أرضها ويُطبّقون عليها شرعَ الله ويظهر عليها النظامُ الإسلامي وحضارته الرائعة وتكون منطلقاً لحملات التبشير ودعوة الناس إلى الدين الجديد، ولولا إدراكُهم للأهمية القصوى لقيام هذه الدولة لما بذلوا تلك التضحيات، إذ مِنَ المعروف أن التضحية تتناسب في وعي الفرد ووجدانه مع أهمية القضية.
 من هنا فإن من الضروري التركيز على هذا العنوان للتصدي للمفارقة الخطيرة لدى بعض العلماء – سواء من كان منهم مستقيماً طيِّباً أو من باع دينه ليُرضي هوى السلطان – فضلاً عن كثير من العامة: إذ أن هؤلاء لا يفهمون من الدين إلا أنه جملة من الشعائر التعبدية والمعلومات الجزئية الشرعية منفكّة عن مقاصد الشريعة ووظيفة الإسلام في الحياة ورسالته الحضارية، وبالتالي فإن سِمَتَهم الاستسلام لإفرازات الواقع الجاهلي واستبعاد وجوب السعي لاستعادة الإسلام إلى موقع الحكم، مع أن ذلك فريضة شرعية من أهم الفرائض في عصرنا كان يفهمها الصحابة رضي الله عنهم ولذلك  بذلوا الغالي من أموالهم وأرواحهم ودمائهم للقيام بها.
 وإذا كان الرسول يقول: "المهاجِرُ: من هَجَر ما نهى الله عنه" – أخرجه البخاري وغيره – فإنه يبيِّن بذلك أن الهجرة إلى الله بالقلوب والأعمال والفِرار إلى دينه في كل الميادين والأحوال هي الهجرة الحقيقية، والخطوة المنطقية الأولى لتتحقّق بعدها كل تلك الدلالات.
فاللهَ نسأل أن يوفِّقَ ويُعين، وأن يَرزقنا البصيرة والتديُّنَ الصادقَ المتين، وأن يُلْهِمَنا الإخلاصَ في أعمالنا وصدقَ اليقين، وحُسْنَ الاقتداءِ بالرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته المباركين وصحابتِهِ البررة الطيِّبين: الأنصارِ منهم والمهاجرين. إنه أكرمُ الأكرمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين