فضل شهر الله المحرم ... وصيام عاشوراء

بقلم: الشيخ أحمد أحمد جاد  


هذا الشهر العظيم من الأشهر الحُرُم، والأشهر الحُرُم مُعظمة عند الله تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} التوبة: 36، والأشهر الحرم أربعة «ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب» (راجع البخاري: تفسير: (4662)، ومسلم: (1679)، وأحمد (5/37).
وقد حرّم الله الظلم فيها {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}, لأن الإثم فيها آكد وأبلغ وأعظم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تتضاعف فيه الآثام، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فيهِ بإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}الحج: 25، وكذلك الشهر الحرام تتضاعف فيه الآثام، وكما جعل الذنب فيها أعظم, فقد جعل العمل الصالح فيها والأجر عليه أعظم، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} الحج: 36.
وشهر المحرم هو الشهر الذي سُمي شهر الله المحرّم، وتُستحب فيه الأعمال الصالحات والكف عن الآثام، كما يُستحب فيه الصيام، ففي الحديث «أفضل الصيام بعد رمضان، شهر الله المحرم...» رواه مسلم:  وأبو داود، وفي رواية: أيّ الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: «شهر الله الذي تدعونه المحرم» (ابن ماجه)، وفي الحديث: «.. صم من الحُرُم واترك..» (جزء من حديث أبي داود)، وهذا يدل على استحباب صيام بعض أيام من الأشهر الحرم.
يوم التمكين للمستضعفين
يوم عاشوراء هو العاشر من شهر الله المحرّم، وأطلق عليه عاشوراء للمبالغة والتعظيم ولأهميته، وهو يوم كانت تعظمه اليهود والنصارى والعرب في الجاهلية، وهو يوم النصر والتمكين للمستضعفين من بني إسرائيل بعد أن أسلموا وآمنوا، فهو اليوم الذي نجاهم الله فيه وأغرق عدوّهم.. وهو اليوم الذي يحتفل المسلمون به فيصومونه كما أمرهم النبي |. فقد جاء في الحديث أن النبي |لما قدم المدينة وجدهم يصومون عاشوراء، فقالوا: هذا يوم عظيم وهو يوم نجّى الله فيه موسى وأغرق فرعون، فصام موسى شكراً لله، فقال: «أنا أولى بموسى منهم»، فصامه، وأمر بصيامه» (البخاري ومسلم وابن ماجه)، وفي رواية: «هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم» (جزء من حديث البخاري وأحمد).
وكان فرعون يستعبد بني إسرائيل ويسومهم سوء العذاب، فبعث الله موسى لإنقاذهم، وأمره أن يذهب إلى فرعون وينصحه لعله يتذكر أو يخشى {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}النازعات: 18-19، وأقام موسى الحجة عليه، فأبى واستكبر، واتهم موسى ومن معه بالإفساد في الأرض، وتوعّدهم وهدّدهم بالقتل والصلب والتنكيل.
النصر والتمكين
ويريد الله أن يحقق النصر والتمكين للمستضعفين {وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} القصص: 5-6، وتأمل كيف تحققت إرادة الله، وكيف نجَّى موسى ومن معه، وكيف استدرج فرعون وجنوده إلى البحر فأغرقهم أجمعين، فقد أمر الله موسى بالخروج وعبور البحر، وخرج فرعون في أثره ليلحق به، وتأمل كيف كانت ثقة موسى بربه {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} الشعراء: 61-62، والهدى هو طريق النجاة، نجاته وهلاك أعدائه.. وقال تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ. وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُون} الدخان: 23-24، وحدثت المعجزة، ومرَّ موسى ومن معه في البحر من طريق يابس، ولما جاوزه أراد موسى أن يضرب البحر بعصاه حتى يعود كما كان، ليصير حائلاً وحاجزاً بينه وبين فرعون فلا يصل إليهم، ولكن الله أراد أمراً آخر، وأمره أن يترك البحر {رَهْواً} وبشره بأنهم مغرقون فيه.. و{رَهْواً} أي: يابساً كهيئته، أي لا يأمر البحر حتى يرجع كما كان، ولكن اتركه هكذا حتى يدخل فيه فرعون وجنوده فيغرقوا!.
ولم ينته المشهد على غرق فرعون، فقد يظن الناس أنه إله وأنه لم يمت، فأمر الله البحر أن يلقيه بجسده على الشاطئ, ليكون دليلاً على موته وهلاكه، وعقوبة له في الدنيا قبل الآخرة، {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} يونس: 92، فلما لفظه البحر أخذه المصريون وحنّطوه، ليراه الناس على مرّ الزمان تذكرة وعبرة: فهل من مدّكر؟ يقول تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ. فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} الزخرف: 55-56، و{سَلَفاً}: أي قدوة لمن يعمل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب، ومثلاً للآخرين: عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم.
«وهذا مثل يضربه الله للقلة المؤمنة المطاردة في مكة من الشرك وأهله، ورؤية في الأفق لكل عصبة مسلمة تلقى من مثل فرعون وطاغوته ما لقيه الذين كانوا يُستضعفون في الأرض، فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها بما صبروا، لينظر كيف يعملون!» (الظلال: 1361).. والله المستعان

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين